ثقافة وفن

صدقي إسماعيل ونبلاء الإنسانية

د. علي القيم :

حسناً فعلت الأستاذة عواطف الحفار إسماعيل حين جمعت في كتاب واحد مجموعة من الدراسات والمقالات التي كتبها الأديب والروائي والكاتب الراحل صدقي إسماعيل (1924- 1972م) في كتاب جميل حمل عنوان «نبلاء الإنسانية» عن أعلام الفكر والفلسفة والفن بين (1633- 1998) وصدر في عام 2008م، عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت، واللافت أن هذا الكتاب لم يصل إلى دمشق لأسباب نجهلها.. مع الإشارة إلى أهمية العرض وحسن الاختيار لكبار تركت أعمالهم أثراً كبيراً في الأوساط الثقافية والعلمية العالمية، أمثال: شوبنهور، وهمنغواي، وكامو، وأندريه جيد، ونيرودا، وسارتر، وبرنارد شو، وريلكه، وبلزاك، ونيتشه، وبرغسون ودوستويفسكي، وفلوبير وغيرهم.
صدقي إسماعيل، عندما يكتب، عن هؤلاء يكتب بوعي وإدراك عن إرث حضاري إنساني، وليقول لنا: إن التباين في وجهات النظر هو أكثر ضرورة للحضارة من الانسياق في فهم محدد واحد لمعنى الإنتاج الأدبي أو العلمي أو الفني في مرحلة معينة.. إن نيتشه مثلاً هو إنساني النزعة مثل «كونفوشيوس ونيرودا وغاندي وتولستوي وسارتر» وإذا كان قد فهم الحضارة في عصره على نحو ما، فذلك لأنه- شأن جميع الآخرين- أراد أن يتبين في تاريخ الحضارة آفاقاً جديدة.. ويرى صدقي في تحليله لأعمال هؤلاء العمالقة، أن الإنسانية كمذهب لا يمكن أن تحمل هذا الاسم، إلا إذا كانت مرتبطة بنزعة التحرر لدى الجماهير التي تتشعب تجاربها، ومن ثم فلابد من أن تسلم أمرها لشتى الاتجاهات التي يعبر عنها رجال الفكر والأدب، لا لأنهم يحبون الإنسانية كفكرة، بل لأنهم ملزمون بكشف الحقيقة المتعلقة بكل إنسان، مهما كانت شروطه الاجتماعية وبنيته الطبيعية، وبهذه الروح يمكن أن نجد في جميع الأدب، ملامح بعيدة، ولكنها واضحة من ميراث النزعة الإنسانية..
لقد قادت النزعة الإنسانية، صدقي إسماعيل إلى البحث، عن المعرفة السارة التي تتجدد في الكلمة والجمال الذي يمكن أن تطل به جميع الأشياء، وتضع أمام أعيننا رؤية جديدة عن عالم يريده الإنسان.. إنه المناضل دائماً من أجل أفكاره، لا من أجل شخصيته، فمن كلمات «جورج برناردشو» اختار مثلاً: «القاعدة الذهبية أنه ليس هناك قاعدة، لا تعامل الآخرين بما تريد أن يعاملوك به، فقد تختلف أذواقهم عن ذوقك».
لقد كتب هذا العاشق كتاباته، وأرسلها زاخرة بالحب والجرأة والوجد… كتب عن «نيرودا» الذي اختار الدفاع عن الناس المسحوقين الذين لا يذهبون إلى المدرسة، ولا يلبسون أحذية في أرجلهم.. كتب عن الأرض والشعر والمطر.. كتب عن أول قصة عاطفية هزت مشاعره.. كتب عن «همنغواي» والحرب التي هي أخطر قضية في حياة الإنسان، وأصعب مشكلة للعقل البشري، والكتاب الذين يتحدثون عنها من دون أن يروها، لا يستطيعون معالجتها على الإطلاق، لأنهم ينظرون إلى الحرب كحادثة عادية.. إنها الشيء الرهيب في حياة البشر، ولا نستطيع تناولها إلا إذا قدّرنا خطورتها في صدق وحرارة.
كتب عن «ألبير كامو» الذي اختار رمزاً للحياة الإنسانية في «أسطورة سيزيف» الإله الذي قضي عليه أن يدفع الصخرة إلى أعماق الوادي، ثم يعود بها إلى القمة، ليقذف بها من جديد… إنه العبث في حياتنا اليومية، فالإنسان يخضع في سلوكه إلى نمط متكرر، والأشياء لا تتغير في «الطاعون» ومسرحية «كاليغولا».. وكتب عن «هيرمان هيسا» الذي بحث عن الروح الشرقية في الهند، فأبدع «ذئب السهوب» ذلك الإنسان الأوروبي المعقد. ويزمجر في أعماق نفسه، ولا يعرف التراجع.. لقد كان هيرمان هيسا، شاعراً بصيراً، على الرغم من اندماجه الكلي في واقع الحياة.. إن الأشياء التي غناها في شعره، والأشخاص الذين صورهم في قصصه، حتى الكلمات المتناثرة، والآراء، ترفرف في عالم غير مرئي.. عالم صنعه بنفسه لكي يجد فيه القلب المتعب راحته الظليلة.
في بحثه عن نبلاء الإنسانية، يحرص صدقي إسماعيل على تحريك عواطفنا، ويعلمنا البحث المجدي عما يرمم فجوات القلب، وكآبة الروح، في غمار موجة التيارات المادية، فيرجع إلى الأفكار النبيلة، ويدعو إلى احترام الشخصية الإنسانية واعتبارها الينبوع الروحي لكل إبداع، ويرى مع «صموئيل بيكيت» أننا كلّما أمعنّا النظر في الحوادث الصغيرة، التي تعتبر وحدها نسيج وجودنا على الأرض، بدا لنا العالم مرهفاً أشد الإرهاف، لا فرق فيه بين صعوبة القضايا الكبرى وتعقيداتها المثيرة، وهموم المصادفات العابرة التي ندعوها سير الحياة اليومية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن