قضايا وآراء

بعد فيينا… «الدولة» كنموذج مقاوم

مازن بلال :

في لقاء فيينا الموسع صورة مختلفة للمسارات السياسية التي تحكم المنطقة عموما، فبغض النظر عن قدرة المجتمعين على التوصل لتوافقات من أجل انطلاق المسار السياسي للأزمة السورية، أو ما تم وضعه من إطار «مغلق» للتوصل إلى حل «متدحرج» إن صح التعبير، للأزمة، إلا أننا أمام اتجاهين في التعامل مع الحدث السياسي، وإذا كانت روسيا تنظر إلى ما يحدث كمرحلة ضمن حالة دولية وإقليمية يمكن أن يتشكل عليها الشرق الأوسط من جديد، فإنه في المقابل يبرز الاتجاه الموازي الذي يريد لهذه العلاقات أن تتجاوز مفهوم الأمن الإقليمي، وتشكل مساحة يجعل من مفهوم «القوة» بالنسبة لدول الشرق الأوسط عموماً مترابطاً مع «بنية مقاومة»؛ تفرض رؤيتها ضمن التحولات التي يشهدها العالم، فالمقاومة لم تعد محورا إقليميا فقط بل إستراتيجية يمكن عبرها إعادة رسم التوازنات عموما، وتوسيع إطار المشاركة في فيينا لا ينطلق فقط من الدور الإيراني، إنما من التعامل المختلف مع رؤية المنطقة لمرحلة ما بعد الأزمة السورية، حيث يدخل ما كان يطلق عليه «محور الشر» كنقطة ارتكاز وحيدة لتطويق الإرهاب ولخلق إطار إقليمي يمكن من خلاله بناء علاقات مختلفة.
وتبدو المسألة أعمق من «الاعتراف» بأدوار إقليمية جديدة، لأن النظرة إلى الأزمة السورية تتمحور اليوم حول مسألتين أساسيتين:
– الأولى أن «الإرهاب» لم يعد تنظيما مجردا ومرتبطا بمواجهة محدودة، بل أصبح نتيجةً لعدم تبلور مشروع واضح لبعض دول المنطقة التي قدمت «الخزان البشري» لداعش والنصرة، وضمن هذا الإطار فإن الصدام الحاصل على الأرض السورية يقدم خيارات محدودة لـ«دول المستقبل» في المنطقة، ولتوزيع القوة وفق القدرة على رسم «استقلالية» قادرة على التعامل مع «مجتمع مقاوم» يشكل جوهر الدولة الجديدة.
ضمن مسار الأزمة السورية ظهرّت فكرة الدولة بما تعنيه من سيادة نقطة الصراع الأساسية، وكان التصعيد الذي شهدته الجغرافية السورية يحدد سياقا كاملا تترابط فيه «المقاومة» مع سيادة الدولة وقدرتها على رسم مشروع مستقبلي، فالإرهاب كان التحدي الأساسي لتفكيك تلك البنية وإنتاج «الدولة المحايدة» التي تستجيب لمعطيات التفكيك والتجزئة وتكريس الصراعات الاجتماعية.
– الثاني هي قدرة المقاومة على اكتساب «مرونة» تستجيب لتطور الاستحقاقات ضمن صراع معقد يتشابك فيه الإقليمي مع الدولي، حيث تجاوزت «وحدة المصير» خط التنسيق أو الدعم لتتحول إلى صراع وجود لـ«الدولة المقاومة»، ولإسقاط هذا المفهوم على مجتمع يتم تجريده من عوامل استمراره وتطوره.
وقدم المسار السياسي للأزمة السورية استحالة البحث عن حلول نهائية دون التعامل مع جغرافية- سياسية مختلفة؛ تتشكل ضمن تطور «الخط» المقاوم الذي ينتج المفاهيم الخاصة بالمنطقة عموما، فالتشكيلات السياسية والتحالفات الإقليمية التي ظهرت خلال الحرب على سورية لم تستطع أن تبلور مساحة جديدة، في وقت أظهرت فيه حركة الميدان أن «بنية المقاومة» تتجاوز عملياً الحدود المفروضة؛ وبلورت مشروعها البديل في مواجهة «الإرهاب» والتطرف.
عملياً، إن الأزمة السورية على امتداد أكثر من أربع سنوات عمقت تكوين «المقاومة» بحيث تستعيد الجغرافية – السياسية للمنطقة موقعها الحقيقي، وتستحضر العملية التاريخية التي تؤكد أهمية الفهم الدقيق لارتباط «المقاومة» مع أي مشروع نهضوي، فنحن أمام نموذج لفهم «الدولة» خارج سياق المألوف الذي ظهر منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، فالتحديات التي واجهتها منطقة الشرق الأوسط أوضحت أن الدولة كبنية سياسية ليست مفهوما حقوقيا مطلقا فقط، لأنها تتعامل مع قضايا حيوية ومتحركة باستمرار؛ على الأخص مع التحديات التي فرضها وجود «إسرائيل».
ربما علينا ملاحظة كيف تصبح بعض الترتيبات السياسية خارج المعادلات القائمة اليوم، فرغم أن لقاء فيينا لا يشكل إطار الحل لكنه يتجاوز الكثير من التصورات المسبقة، والمبادرات التي كانت ترسم محاولة للقفز على كل المفاهيم التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين، وجعلت خيار المقاومة عنوانا أساسيا، فإذا كانت المشاريع السياسية تحاول رسم ملامح نفوذ في المنطقة مختلفة عن الماضي، فإن تجربة السنوات الأربع الماضية جعلت الخيارات مفتوحة أمام ترابط الدولة مع «المشروع المقاوم»، وقدرة هذه الخيارات على التعامل مع صراع مزدوج ضد الإرهاب، وفي مواجهة رسم مناطق نفوذ إقليمية ودولية، فالمسألة ليست تجربة تاريخية فقط بل هي أيضاً تحد وجودي مستمر على امتداد تاريخنا المعاصر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن