قضايا وآراء

ملاحظات حول تدهور النفوذ الأميركي

تحسين الحلبي :

اعتقدت الإدارات الأميركية في سنوات الستينيات أنها قادرة على بسط سيطرتها السياسية وهيمنتها على دول أميركا اللاتينية المجاورة لهذه القوة الأميركية، فتدخلت في تسع دول كان أهمها كوبا وتشيلي وفنزويلا والبرازيل وكانت المخابرات المركزية الأميركية تتولى تنفيذ خطط تغيير الحكومات التي تتطلع إلى المحافظة على استقلالها وسيادتها وانفتاحها على الاتحاد السوفييتي.. وبعد عقود من هذا التدخل الأميركي تمكنت معظم دول أميركا الجنوبية من تحرير نفسها من النفوذ الأميركي التخريبي والتجسسي وتشكيل مجلس موحد لدول أميركا اللاتينية..
ولم تستطع واشنطن منع معظم هذه الدول من إقامة علاقات متينة عسكرية وسياسية واقتصادية مع الصين وروسيا بعد انهيار كتلة دول الاتحاد السوفييتي ويكشف (معهد الدراسات الإستراتيجية) الأميركي الشهير بعلاقته بكلية الحرب الأميركية أن روسيا والصين نجحتا في ضم البرازيل إلى تحالف (دول البريكس) وأن وزير الدفاع الروسي (سيرجي شويغو) زار في شباط الماضي نيكاراغوا وفنزويلا وكوبا، وأصبحت دول كثيرة على علاقة اقتصادية وعسكرية مع موسكو بشكل زاد عن تأثيرها في عهد الحرب الباردة. كما تمكنت الصين من فتح بوابات اقتصادية وتجارية واسعة مع معظم هذه الدول في السنوات الماضية، ولم يعد بوسع النفوذ الأميركي عرقلة زيادة الصلات والنفوذ الروسي والصيني مع دول أميركا اللاتينية رغم كل النشاطات الاستخباراتية والضغوط الأميركية على تلك الدول القريبة جداً من حدود الولايات المتحدة. ويبدو أن ما كانت تقوم به واشنطن في أميركا اللاتينية في ستينيات القرن الماضي تحاول الآن القيام به بشكل شرس وعلني في منطقة الشرق الأوسط إلى حد جعل بعض المحللين الأميركيين تشبيه ما جرى في عام 1962 ضد كوبا والتهديد بغزوها بما تقوم به واشنطن الآن تجاه سورية ومحاولات (تغيير الحكم) فيها عن طريق دعم وكلاء الحرب الإرهابية المحليين من دول ومجموعات مسلحة.. لكن الانخراط الروسي والإيراني في الدفاع عن سورية وشرعية قيادتها ومستقبلها تزيد تأثيراته كثيراً عما شهدته أزمة كوبا عام 1962 وحماية الاتحاد السوفييتي لها.
فالدور الذي يشكله سلاح الجو الروسي والقوة البحرية الضخمة الروسية والتنسيق الدائم بين القيادتين سيوفر ظروفاً في هذا الشرق الأوسط الملتهب لن تتمكن واشنطن من تغيير نتائجها السياسية والعسكرية.. فقد فتح هذا الدور الروسي والصيني بوابة وفرت لأي دولة في المنطقة فرصة إقامة علاقات تعاون عسكري وسياسي واقتصادي وتعاوني مع موسكو وبكين، وهذا ما شهدته المنطقة في الزيارات المتبادلة بين المسؤولين المصريين والروس وبين المسؤولين العراقيين والروس وهما الدولتان الصديقتان تاريخياً لموسكو وبكين في أثناء فترة الحرب الباردة، ومن المقدر للمنطقة أن تقترب سنة تلو أخرى نحو النتائج نفسها التي فرضتها الحكومات الثورية والتقدمية في أميركا اللاتينية على واشنطن في العقد الماضي بالاعتماد على العلاقات المتينة الاقتصادية والسياسية مع موسكو وبكين، ويبدو تماماً أن القيادة الروسية تدرك أن سياستها القائمة على الدفاع عن الحلفاء وفتح فرص إنشاء علاقات مع الدول المتحالفة مع واشنطن في المنطقة سيؤدي إلى الإسراع في تحييد دور الدول المسخرة أميركياً لاستهداف سورية ولا شك أن تفتيت جبهة الدول المحلية الداعمة للإرهاب سيوفر بدوره فرصة لإعادة بناء علاقات إقليمية ودولية برعاية روسية وصينية تفرض جزءاً مهما من شروطها على واشنطن ولندن وباريس.
وهذا ما يحذر منه المحللون في «معهد الدراسات الإستراتيجية» الأميركي «آي إس إس» الذي يشارك في تقديم الاستشارات حول السياسة في الشرق الأوسط والعالم، فقد لاحظ هؤلاء أن واشنطن لم تستطع تثبيت الحكام الذين تعتبرهم حلفاء لها في المنطقة كما لم تستطع إعادة الوضع في كل من مصر والعراق إلى سابق علاقاته مع واشنطن، ولم تستطع تسخير الجزائر وتونس لمصلحة سياستها بشأن سورية، ولم توفر الضمانات الكافية لحلفائها التاريخيين في دول الخليج والأردن وتركيا لحماية أوضاعهم الداخلية، فالسعودية أصبحت في قلب العاصفة والأردن في أوج الانشغال بدرء تأثير التطورات الفلسطينية والسورية على وضعها الداخلي، بينما يزداد التحالف السوري- الروسي- الإيراني ومعه المقاومة اللبنانية والفلسطينية متانة وتماسكاً وخصوصاً بعد اجتماع فيينا وبيانه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن