قضايا وآراء

أكبر من يالطا.. أصغر من عرش دمشق

عبد المنعم علي عيسى :

يستذكر هنري كيسنجر الراسم للسياسات الأميركية في عقد كان يشكل مقدمة أساسية لتلك الانهيارات التي لحقت بالقطب الخصم مطلع العقد الأخير من القرن المنصرم، وهو الحكيم الأميركي في هذا الزمن وفي منزلة البطرك السياسي الأكبر منه، يستذكر ويستعيد ما قاله عن سورية في العام 1974 بعد مفاوضات فك الارتباط: «جوزة يصعب كسرها بالقوة».
أطلق كيسنجر في 19/10/2015 تصريحاً مهماً قال فيه: الأسد يفشل السياسات الأميركية للمرة الثانية، ويقصد بهذه الأخيرة (الثانية) تلك التي بدأت مع زلزال «الربيع العربي» الذي أسقط من أسقط ودمر من دمر في حين بقي الأسد صامداً عصياً على الرغبات والأهواء الأميركية. أما المرة الأولى التي يقصدها فكانت عندما جاء كولن باول (وزير الخارجية الأميركي 2001-2005) إلى دمشق كطاووس يتباهى بألوان ذيله ذلك الذي صبغ العراق بها حتى الآن وما من أحد يدري لمن ستكون الصبغة القادمة، حدثت الزيارة في اليوم التالي لإعلان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن من على ظهر بارجة أميركية قائلاً: «المهمة قد أنجزت» جاء باول يوم الجمعة 2 أيار 2003 حاملاً معه كما أشيع في وسائل الإعلام الطلبات الأميركية الـ(33) وفي العالم الشفوي (غير الموثق) شاع من تلك الطلبات ثلاثة عبر ما تسرب من المسؤولين الأميركان ومن الإعلام الأميركي والتقطه المهتمون بالسياسات السورية، كانت (الطلبات الثلاثة) تتعلق بالعراق وفلسطين ولبنان وفي الأولى كان المطلوب هو التعاون الاستخباراتي مع الأميركان وفي الثانية وقف الدعم الذي تقدمه دمشق إلى حماس، أما الثالثة فهي وقف تزويد حزب الله بالأسلحة وشتى أنواع الدعم اللوجستي.
تضيف تلك التسريبات بأن باول قدم أثماناً باهظة لطلباته كان في مقدمها بقاء دمشق بمنأى عن أي استفزاز خارجي بل إغراقها بالاستثمارات الغربية والخليجية، وبقاء لبنان في العهدة السورية الأبدية لا ينازعها فيه أحد على الإطلاق.
لا يمكن للرفض الحاسم الذي أجاب به الأسد يومها أن يعطى حقه إلا إذا عرضنا للمناخات الدولية التي كانت تحيط به ففي أعقاب 11 أيلول2001 ظهرت أميركا جريحة ومستعدة لأن تجرف كل من يقف بوجهها في سعيها للأخذ بالثأر، آنذاك ذهبت روسيا بكل عظمتها إلى القبول بتوقيع اتفاقات كانت ظالمة لها مع الناتو وخصوصاً تلك التي تتعلق بكمية ونوعية الأسلحة المنتشرة في أوروبا على حدودها أيضاً، أما بيونغ يانغ فقد فتحت منشآتها النووية أمام المفتشين الدوليين صاغرة في حين ذهب القذافي إلى الاتصال بالأميركان فاضحاً ما هو مطلوب منه (البرنامج النووي الليبي) وما هو غير مطلوب أيضاً (البرنامج النووي الإيراني).
في يوم الجمعة 30/10/2015 شهد فندق امبريال ريدينغ سكول في العاصمة النمساوية اجتماعاً هو الأكبر منذ الاجتماعات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية فقد حضره- على مستوى وزراء الخارجية- تسعة عشر وفداً تمثل فيها قطبا العالم ومعهما الصين كما تمثلت أوروبا بالدول الوازنة فيها كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، على حين تمثل النظام الإقليمي بحضور الدول الأكبر في المنطقة كتركيا وإيران ومصر (وقد تم ذكر هذه الأخيرة في هذا الموقع تحسراً على دور مصري غائب وعلى موقع لا تحسن القاهرة حتى الآن ارتياده) ليكتمل الحضور بدول الجوار السوري الثلاث الباقية: لبنان- العراق- الأردن.
أمام المجتمعين بند وحيد وهو الذي يشكل كل هذا التجاذب وكل هذا الاستقطاب ومن الممكن اختصاره بسؤال صغير: هل يرحل الأسد أم لا يرحل؟ جميع من حضر كان يتموضع في أحد خندقين الأول مؤيد لسيادة الدولة السورية على أراضيها وداعم للسلطة الشرعية القائمة فيها بينما الثاني يريد رحيل الرئيس الأسد بأي ثمن وليكن ما يكون بعد ذلك الرحيل، وفيما بين الخندقين كان هناك بعض المتلونين (الذين لا بد من وجودهم في أي اجتماع وفي أي محفل) الذين يضمرون عادة غير ما يعلنون والعكس صحيح في ذلك أيضاً.
أدلى الجميع بدلوه، حيث لم تشهد المواقف أي تغيير يذكر، فمن هذا الأسد؟ وهل هناك من شيء يمكن له أن يقسم العالم إلى نصفين كما قسمه الأسد؟ ثم كيف أضحى بيضة القبان في التوازنات الدولية؟
المتغيرات المحتملة لمواقف الدول الأكثر تأثيراً التي شكل «فيينا» مؤشراً عليها من الممكن استقراؤها على خلفية المسار العام الذي تنتهجه تلك الدول، وفي ذلك يمكن القول بأن الموقف الأميركي الذي يشهد تغيراً كبيراً في إطاره العام سيكون له بالتأكيد تأثير كبير في مجمل القضايا الإقليمية والدولية، واشنطن اليوم لم تعد تريد ملء الفراغ الذي أطلقه دوايت إيزنهاور في رسالة وجهها إلى الكونغرس الأميركي 5 كانون الثاني 1957 وكانت خاصة بالشرق الأوسط وحده وملخصها أن بوسع جميع الدول الشرق أوسطية أن تلجأ إلى طلب المساعدة الأميركية بشتى أنواعها الاقتصادية والأمنية والعسكرية وهو ما عرف بنظرية ملء الفراغ التي جاءت في أعقاب أفول شمس كل من فرنسا وبريطانيا وتحديداً في العام 1956 التي كانت إيذاناً بهبوط كل منهما إلى أندية الدرجة الثانية.
واشنطن اليوم تتجه نحو إخلاء المنطقة أو تخفيف وجودها لا يغير من ذلك الإعلان عن وجود قوة كوماندوس أميركية في الشمال السوري 31/10/2015 حيث الأهداف الأميركية من ورائها لا تعدو أن تكون حماية لبعض المناطق التي تريد حمايتها انطلاقاً من أن الوجود الأميركي في بقعة ما سيعني بالضرورة ابتعاد الطائرات الروسية عن تلك البقعة، أما فيما يخص دوافع الإخلاء فهي عديدة كأن تكون هناك ضرورة لملء الفراغ في أماكن أخرى كالشرق الأقصى مثلاً أو لاعتبارات داخلية تتعلق بما أحدثته الأزمة المالية عام 2008 التي شكلت نذيراً بزوال عصر الهيمنة الاقتصادية الأميركية على العالم.
من جهة ثانية فإن الموقف الروسي يتسم بحذر مبالغ فيه، حيث المخاوف هنا تتولد من قدرة الخارج عبر الأذرع الأمنية والاقتصادية في اللعب على التوازنات الداخلية الروسية وهو ما بدا واضحاً بعد الأزمة الأوكرانية شباط 2014 لتبرز من جديد حقيقة راسخة أمام موسكو هي أن الغرب لا يمكن له أن يتفق على شيء أكثر من اتفاقه على تفكيك الاتحاد الروسي أو انهياره. وسط هذه المعمعة الأوروبيون لا شيء لديهم كي يقدموه وتوصيف القارة العجوز لم يعد كافياً لتوصيف الدور الأوروبي الذي بات أقرب إلى العدمية أكثر من أي شيء آخر.
كم كان مريراً ذلك الجواب الذي رد به ستيفان دي ميستورا 30/10/2015 على سائليه عن سبب غياب جميع الأطراف السورية عن اجتماع فيينا السوري، أجاب دي ميستورا: السبب بسيط فقد أبلغنا الأطراف السوريين بأنهم لا يستطيعون التوصل إلى أرض مشتركة من دون توصل الدول التي تقدم لهم الدعم والمال والمساعدة إلى تفاهم.
لم يفض اجتماع فيينا 30/10/2015 إلى نتائج ملموسة ولم يصل الأمر بالبيان الصادر عنه إلى دعوة (ولا نقول تحذير) الأطراف الداعمة للمجموعات الإرهابية المسلحة في سورية إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن ذات الصلة (2170-2178) إلا أن المناخ المتولد عنه –عن الاجتماع- لم يكن مريحاً للمحور الذي يقود الحرب على دمشق بدليل أن المحور القطري السعودي التركي قد سارع فوراً وفي أعقاب صدور البيان عن الاجتماع إلى إصدار بيان خاص فيه ليؤكد «إذا لم تفض العملية السياسية إلى حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة ورحيل الرئيس الأسد فلا يمكن الحديث عن حل سياسي في سورية».
على الرغم من ذلك فإن اجتماع فيينا يعتبر نقطة إيجابية سيتم مراكمتها في جعبة التسوية السياسية السورية وإن كان ذلك التراكم يحدث بوتيرة أكثر من بطيئة ما لم يستطع اجتماع دولي هو الأكبر بعد يالطا (شباط 1945) أن يكسبه الزخم المطلوب والملح فالتعقيدات التي تشهدها الأزمة السورية باتت حدثاً يومياً وتهدد باتساع دائرة اللهب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن