ثقافة وفن

العقل الشاب بلحية بيضاء.. عادل محمود بريء كسراب!! … عندما يصبحون كهولاً غرباء… يعودون من حيث جاؤوا!!

إسماعيل مروة :

إن كان لي حصة من رصاصات، في بندقية ما،
من متراس ما
فكل ما أرجوه
ألا يطلقها عليّ أحد «رشاً» بل «دراكاً»
لئلا تجزع سلحفاة شرفتنا وينكسر السنونو
إن كان لي حصة من المتفجرات
أرجو ألا تضعوها تحت مقعدنا
في حديقة المهاجرين
لئلا ينقص الحب في هذا العالم
في ربيع 2012 قال عادل محمود هذه المقطوعة من قلب الدمار والقتل والدم، وكله أمل في حرية قادمة تليق بالإنسان بعد أن يحتفظ كل منا بمقعده من الحب في حديقة ما من مكان ما.. نص نازف بالواقع والرجاء، نص من لا يخشى الموت والرصاص والتفجير، بل يرشد الآخر للطريقة الملائمة ليبقى شيء ما من ألق للغد الذي يليق بالحرية القادمة، الحرية التي يراها الشاعر يقيناً قادمة يلفها الزهر والأمل بعد أن عبر الإنسان إلى الضفة الأخرى.

براءة السراب
وحده يأتي ويذهب من دون أن يرتكب وزراً هذا السراب، يرقبه الناس ويراقبونه، لكنه يصل ويخرج كأن لم يكن! لذلك جاءت براءته، ولأنه حقيقة اختاره الشاعر ليكونه، ربما لأنه يمثل أملاً للمترقب، فالسراب يزرع الأمل في شربة لظامئ، وفي غدٍ لناشد حرية، يعطي السراب الأمل، وإن كان يخرج ببراءة من لم يفعل شيئاً، كذلك هو الرائد الذي لا يكذب أهله، كذلك هو الشاعر الذي يقف آخر الدمار ملوحاً لك بالحرية القادمة مهما تلبدت الغيوم، ومهما انهمر مطر الخراب والدم.
«أنا بريء كسراب» اختاره عادل محمود عنواناً لمختاراته الشعرية التي صدرت عن دار التكوين بدمشق، مختارات لشاعر مطوّب منذ عقود، له صوته ونكهته وبصمته، له شعره وله غضبه، له حبه وله نقده، ولا أخفي أنني فوجئت بهذه المختارات، ولست مع الاختيار لشاعر بوزن عادل محمود، فكل شعره مختار، وهو شاعر مزاجي غير مكثر، لذلك ليس من حقه الزعم أن الاختيار ممكن، وعجبت منه عندما جرؤ على الانتقاء من المتميز الذي رافق مسيرته، وقد يكون عادل من القلة من الشعراء الذين احتفظوا بكينونة الشعر في ذواتهم ولم يبتذلوه، ولم يبذلوا ماء وجهه، وحسبك أن تجد شاعراً مثل أدونيس يبحث في الوجوه عن عادل، ويسأل عن عادل وشعره، ويعتني بغياب الشخص والنص، وكنت أتمنى في استراحة المحارب هذه، وهو على مقعد الحب يعيش في هذه المدينة متجذراً أن يصدر المجموعات الشعرية من دون اختيار لتكون هادياً للذوق الشعري، ولألق الصورة وعمق الفكرة.
عشت في هذه المدينة مئة عام و… يوم
قضيت نصف قرن مربياً لماعز الأمل
وقضيت نصف قرن آخر
وما زلت على رأس عملي
في مهنة أحبها:
سقاية السراب
فليكن سراب الشغوف بالوقت والزمن، شغف الترقب أو شغف الحب أو الخوف، فمن عاش مئة عام ويوماً، كتب الأبدية في (إلى الأبد ويوم..) ونال عليها جائزة قراءة الزمن والشغف به، ومعرفة المكان فيه.

صورة من اليوم إلى السراب
يحدد عادل محمود من البداية المجموعات الشعرية التي اختار منها هذه المجموعة لتبدو منسجمة مع كهل الحكمة الذي عاش مئة عام ويوماً.. قد يكون الدافع إلى الاختيار إعطاء صورة عن رؤية الشاعر، وربما عن نبوءته وقراءته التي سبقت ما يحدث على الأرض اليوم من أحداث محيرة للعقلاء، والدليل على ذلك المقاطع التي بدأ بها الشاعر اختياراته، تلك المقاطع التي تقف عند فاجعة الحدث الذي يجري على الأرض السورية، وفي مقطع عنونه «25 آذار 2012» يكتب الشاعر مقطعاً ملغزاً ومعبراً عن هاجس المكان والإنسان:
يأتون إلى دمشق.. فتياناً، وأغراباً، وغرباء
يعيشون في دمشق رجالاً، وخبثاء، وغرباء
يملكون بيوتاً متاحة للأغرار وللرجال الخبثاء الغرباء
لكنهم عند خط النهايات الأخير
عندما يصبحون كهولاً وغرباء
يعودون، من حيث جاؤوا
كي
لا
يموتوا…
غرباء!
مع تركيز الشاعر على الغربة والخبث إلا أن النص يحمل ألماً دفيناً: كي لا يموتوا غرباء! وكأن الموت حتمية في موضع ما، والنجاة ممكنة في مكان ما!!
ونبوءة الشاعر وقراءته وموقفه هو ذاك المستمر منذ البدايات، وهذا ما يعبر عنه عادل محمود في شعره عامة، فهو ناشد للحرية، قارئ للغد، راسم للخطوات.
لما يفاجئني
بل لم يكن يعنيني مشهد السقوط العفني
حجراً وراء حجر
ولا تفسخ الجدران
أو صرير أجوبة التاريخ على الجدران
فهذه القلعة لم تكن بيتاً لأحد غير سلاجقة العصور
ولم تحم أحداً من السكان المذعورين في لحظة الغزو
البربري خارجها
ولم تك بيتاً للحكمة أو لحماقة الشجعان
كانت للجشعين وحدهم
صرت أفكر، كلما مررت بها على ضفة النهر القديم
أفكر، وأنا شاهد تفسخها وتعفنها وترميم عفتها
أفكر: متى هذه القلعة العظيمة العظمى الأكذوبة
متى.. تكمل هذا الانهيار؟
صورة للشاعر وشعره، وإن كان الاختيار لا يكفي وحده، إلا أنني مارست كذلك الاختيار على اختياراته، صورة تعبر عن عادل الشاعر المتمكن صاحب الرؤية الثاقبة في ثنايا الفكر واللغة والإبداع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن