ثقافة وفن

بيت العائلة والماء المالح!

إسماعيل مروة :

سياسة الانتظار، فلسفة الانتظار، سمّها ماشئت! الرهان على الوقت والزمن! العض على الأصابع، انتظار القادم من دون أن نعرف ما يحمله في ثناياه! مهما كانت التسمية فإنها فلسفة قاتلة تقوم على الانتظار، وتعتمد على الأرض الموات التي لا حركة فيها! السكون موت والحركة حياة وفعل، حتى إن كان المسير إلى الخلف هو يمثل الحياة التي تنبض، أما السكون المطلق فهو موت محتم، وهو أسوأ أنواع الموت، لأن أحدنا لا ينتظر يوم قيامة منتظراً وموعوداً ليرى ما جرى له، بل إنه مع كل صباح يرقب موت خلاياه، وتقدم الشيخوخة إلى شخصه والمحيطين حوله، ويشهد تحول الأرض الموات إلى أرض يباب، وإلى أرض دمار ودم تعجز عن احتواء الأحبة! وتمنع من إقامة رخام قبر نزوره بين الفينة والأخرى.. حتى الموت تفقدنا فلسفة الانتظار الاستمتاع به وبحكمته! لم يعد أحدنا قادراً على الانفراد بذاته ليتذكر الراحل بإيجابياته ليبكيه، وبسلبياته ليعرف الحكمة من رحيله في الوقت المناسب.
الآخر يفعل، يرسم، يخطط… ونحن نرقب، ننتظر، ننفعل!
مقدراتنا بيد الآخر، هو يحدد ما يريد، هو يفعل ما يريد!
ونحن ننتظر، نقدّر للآخر أنه خطط لنا! نحتفظ له بالجميل، ولو تأخر بجلب سيارة الإسعاف حتى لفظ العزيز «الوطن» أنفاسه بين أيدينا، المهم أنه جاء ليعمل على ترحيله وإلغائه.
بيت العائلة بني على الغش، وانتشر فيه الحقد والفساد، ولم ينفع أن تجتمع الأسرة مساءً على طاولة واحدة لتتغنى بالزعتر البري والزيتون المعطّن، ومن حولنا يتناولون الوجبات السريعة على عجل، لنشر رسوم ومخططات تمكنهم من هدم بيت العائلة!
لم يحدث شيء، والقادر على التدعيم لم يفعل، وتاجر الحديد منع الحديد عنه، وبائع الاسمنت فضّل تصديره، والمغني غادره ليغني في المرابع الليلية أغاني الراب، والمرأة المرضع منعت حليبها عن رضيع العائلة لتصبه في عبوات تباع في السوبر ماركات!
الطين وقع، وظهرت العمدان وانحناءاتها
الجوع انتشر ولم يعد للطفل الرضيع من حليب
الحسناء تفرد ساقيها على رصيف القهر
وشام تدمع عيناها كلما سمعت أغنية!
تتقيأ كلما وقف شاعر لإلقاء قصيدة
تغيب عن الوعي وهي تسمع واعظاً يتحدث عن العفة!
رحلة التداعي بدأت
الجرذ في كل مكان من بيت العائلة!
الصرف الصحي تعطل ووصلت المياه المالحة إلى الأسرة!
جرذ يركض هنا، وآخر يقفز فوق السرير
ومالك المصيدة يحتفظ بها، ويرى أن الوقت لم يحن لاصطيادها!
والعامل في الصرف يحتفظ بمواده بانتظار القادم الأسوأ! لا يريد أن يستنفد ما لديه من مواد غالية الثمن…!
لو أن الترميم بدأ فماذا سيكون حال بيت العائلة؟!
لا ترميم يحدث
لا مواد لإعادة الصرف الصحي إلى طبيعته
السقف مع الشتاء بدأ الماء ينسرب من أنحائه
المواد العازلة تباع للآخر..
التنور لا يعمل والنسوة يعملن على نزع الشعر الزائد
لا قمح قادماً.. لا طحين في بيت العائلة
بيت المونة فارغ من كل شيء..
الأطفال يصرخون، يتضورون جوعاً
الزعتر البري لا يزال أغنية
الزيتون المعطن ميراث بيت العائلة..
وحين انهمر المطر
وصارت السماء تمطر مياهاً مالحة
والأرض تنبع ماء مالحاً
تجمعت الكلاب الضارية
الذئاب تصدر عواء متواصلاً مخيفاً
ومن البيت خرجت الكلاب التي كانت أليفة
لا هذا يدخل
ولا ذاك يخرج
الأجواف تملؤها المياه المالحة
ذات صباح شتائي همّ أبناء بيت العائلة بترميمه
وعندما نهضوا لم يتمكنوا
السقف صار أرض ديار
كل شيء صار أسود
لم يبق في البيت وعلى سوره سوى المستعرة
تريد أن تبيع ما تبقى من حجارة
إنها حجارة عتيقة وقوية
نهض أبناء البيت
عقدوا حلقة للدبكة، وبدؤوا بكاء البيت
ومع كل خبطة ينهار حجر
يذهب إلى سيارة منتظرة
لم يكن بيت العائلة محتاجاً لأي جهد
انهار وحده
وعندما غادره بما نهبوا من حجارة
لم يتنبهوا أن العمدان بدأت تكسو ذاتها
ليعود بيتاً للعائلة
لكن ليستبدل قوماً غيرهم!
أضاعوا بيت العائلة
ونهبوا قماش كفن الجدّ الذي يرقب
دمعه ينهمر
لكنهم ظنوه ماء مالحاً

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن