ثقافة وفن

العمق في حالة انتظار الحل المجهول .. مسرحيّة «النافذة»… ميكروسكوب على نموذج من حياتنا الداخلية في أثر الحرب

عامر فؤاد عامر – ت: طارق السعدوني :

تتمحور فلسفة السعادة، التي يتحدّث بها الفيلسوف «ابن سينا»، حول فكرة: «الوصول إليها لا يحقق جوهرها»، وتكمن السعادة في الطريق إلى السعادة وليس في تحقيق الهدف أو المبتغى. ويبدو أن نص العرض المسرحي «النافذة» للكاتب البولندي «إرينيوش أريدينسكي» تستند في جانب خفي منها إلى هذه الفكرة الجوهريّة، وقد منح هذا الجوهر النص ميّزة كبيرة من حيث إن الإنسان دائم البحث، ودائم التغيير، ويبقى على حالة الانتظار والتشوّق لتحقيق ذاته من خلال أهدافه، وهذا ما لمسناه في العرض المقدّم في استديو «شريف شاكر».

أعماق جديدة
حاول الفنان «مجد فضّة» مخرج العرض أن يبحث في أعماق جديدة تقارب الهمّ المشترك للمواطن السوري، على وجه التحديد، وتسليط الضوء أكثر على أثر الحرب التي عاشها في خمس السنوات الماضية من حياته، فانطلق من الخاصّ إلى العام، بمعنى تقريب المجهر أكثر على حياة شخصين متزوجين حققا طموحهما في الحياة، وعاشا ضمن ظروف متكاملة، ولكن بقي للحرب أثر قاسٍ عليهما، ومع مرور الوقت بات الانتظار حالة حقيقية أوصلتهما للعيش تحت وطأة «وماذا بعد؟!» فواحدة من هاتين الشخصيّتين تنتظر أملاً جديداً من خلال ضوء سيأتي عبر عتمة من البناء المقابل لمكان سكنهما، والشخصيّة الأخرى تبحث وتنتظر في عودة الزوج للعيش معها في حياة أكثر تناغماً وفيها عودة للطبيعيّة أكثر وللحياة المعتادة كما في السابق، فتُجري صورة للمقارنة بين شكل حياته سابقاً ووضعهما حاليّاً.

من حياتنا
يبدأ العرض بأغنية للفنانة «وردة الجزائريّة» يتمّ إيقافها لندخل جوّ العرض في محاولاتٍ من الزوجة «جفرا يونس» للفت انتباه الزوج «مازن جبّة» الذي يحدّق في الأفق في نقطة بعيدة عن فضاء غرفة السكن التي يعيشان فيها، وتعمل هذه الزوجة على لفت انتباهه في كثير من المحاولات بين إغرائه بجمالها وتذكيره بلحظات جمعتهما في الماضي، وبذكريات مع الآخرين، وبمناقشات فكريّة من لا جدوى انتظاره، وفي البحث عما يحدّق به وما ينتظره وفي طرح كثير من الحلول كي يبتعد ويتحرك عن ثباته المُقلق بالنسبة لها، أمّا هو فيبادرها بالرفض والردود السلبيّة، فوجعه الداخلي وأمله في الانتظار كان أكبر من فكرة العودة والاستقرار في ظرف يشبه الماضي، لأن الآن غير الماضي، لكن في نهاية العرض يصل الزوج إلى مبتغاه في رؤية الضوء الذي ينتظره فيسعى عائداً لحياته تدريجيّاً ملتزماً برغبة الزوجة التي تنتقل لحالة مختلفة في رؤيتها لذلك الضوء ورغبتها في التعلق به من جديد، والابتعاد عن رغبة زوجها.

أين الحلّ؟
يحتمل العرض التأويل بين عدّة جوانب في كلّ شخصيّة على حدة وفي الاشتراك بينهما وفي الهدف من العرض وقد التقينا المخرج «مجد فضّة» الذي قال عن عرض «النافذة»: « لم أحدد من خلال الشخصيّتين الحلّ؛ بل جعلتهما تبحثان عن الحلّ، فمن الجميل أن يبحث المرء عن شيء يأمل به أو ينتظره، وخاصّة أنّ الشيء المُنتظر مجهول الهويّة، وغير محدد المعالم، فهو يحمل كلّ الاحتمالات من السعادة والفشل، وبالتالي فالأفق مفتوح، وهذا ما فقدناه الآن، وما يشبهنا، فنحن ننتظر حلاً غير منطقي، وغير معروف، وهذا الانتظار فعل مُمل، ولكنه أصبح سلوك حياة يوميّة، فننتظر شيئاً غير معروف، وغير مسمى، ومجهول».

كتلة عرض حيّة
كان أداء الفنانة «جفرا يونس» يعتمد في القسم الأكبر منه على تفاصيل أنثويّة بالكامل، فهي مزيج من الغيرة، والحبّ، الدعوة للسلام، والانسجام، ورغبة المساعدة تحقيقاً لغايتها، والكره، وحثّ الطرف المقابل على التعاطف معها، وغيرها، وقد نجحت في الانتقال بقوة من هذه الشخصيّة التي تثور وتغلي طول الوقت إلى شخصيّة جديدة في الدقائق الأخيرة من العرض فأصبحت الشخص الأكثر لطافة بالاعتذارات وبالهدوء والانتقال للحظة الانتظار والتحديق والتخلص من الشخصيّة السابقة، أمّا الفنان «مازن جبّة» فقد برع في حالة الزوج الذي ملّ من وجعه وانتظاره اليومي ليخلق حالة متجددة بالنسبة له في انتظار لمعة أو بارقة أمل من مكان خارج حدود سكنه، على الرغم من كلّ الضغط الذي يتلقاه من الطرف الآخر، وفي لحظة أخرى كان لديه حالة من الدفاع ضدّ هذا الضغط، ودفاعه جاء بين أجوبة استفزازيّة وردود عصبيّة فكان اللعب بين هدوء وثوران، ويبدو أن الفصل بين تلك الحالتين خفف من لغة التحديق التي تتطلبها الشخصيّة فجاء تحديقه غير ثابت في نقطة واحدة بل موزعاً ومشتتاً في عدّة نقاط.

نقاط أساسية
اعتمد العرض على نقاط أو رموز أساسية تكرر ذكرها ووجودها في العرض كفكرة الضوء وانتظاره، ويبدو أن هذا الرمز الذي يعتقده البعض بسيطاً وطبيعياً له رمزيّته الكبيرة جداً، وفي ذلك يقول مخرج العرض لنا: «الضوء الذي تنتظره الشخصيّة كان متوافراً فيما مضى، وبقوّة، وكان الطموح أكبر، ومتوافراً وموجوداً في حياتنا، لكن اليوم من يرى هذا الضوء فيا لسعادته وهنائه، وحتى لو فهمنا ذلك مباشرةً وبصورة واضحة، فهذا سيخدم الغاية من العرض، ولكن هناك من يبحث من الجمهور عن معنى أعمق حول الانتظار، والبحث عن شخص آخر يشعر بك، أو لمعة ضوء في قلب العتمة، وهذه الفكرة تلامس شعورنا الداخلي لأنّنا بانتظار هذه اللمعة، وقد تعمدت ألا نتحدث عن الحرب بصورة مباشرة، على الرغم من أن هذه الشخصيّات تعيش في الحرب، فهي تعيش النتائج التي تركتها الحرب، وهنا أردنا أن نشرح ماذا يفعل الانتظار بالناس الطبيعيين قبل أن يفعل بالناس المؤهلين لفقدان توازنهم بصورة سريعة».

الحبّ والحرب
في نهاية العرض تشابه كبير للغة تخصّ المتلقي ورغبته فهناك قرب منه في الهم وفي لغة الانتظار ومحور البحث عن السعادة فلم تكن هذه النهاية غريبة عن المتلقي أبداً وحول النهاية وهذه الأفكار يضيف لنا الفنان «مجد فضّة»: لم ننه المسرحيّة بل إن الشخصيّتين هما من أنهى ذلك، وهاتان الشخصيّتان هما الجمهور، الذي يتقاطع ويتشابه معها كثيراً، وهذا عامل مهمّ بالنسبة لي وقد حقق ما أردته، فلم أسع لنهاية صادمة، أو مفاجئة أبداً، ويبدو أن هذه هي نقطة القوة في العرض، أي أن يتوقع المتلقي النهاية، وانتظار شيء غير واضح المعالم، لكن يعطي ثباتاً على الأرض للحظة ضمن ظلام دامس، يجعل من الحبّ متراجعاً، ومن العلاقة الحميمة والعواطف الجميلة رفاهيّة، والذي يشير في بعد جديد أنه جعل من الحبّ محصوراً بزمرة معيّنة تُتهم بالتخلف، والجمود، وكأنّه مفهوم فكري أو سياسي، وفي النهاية الجميع يعلم أن الحبّ ليس فكرة! وهذا جانب مهمّ في العرض؛ أردت تسليط الضوء عليه، فهؤلاء الناس الذي وُهبوا قيمة الحبّ وعاشوا فيها، أثرت عليهم الحرب كثيراً وغيرت من معالم حياتهم المشتركة».

تعريف
قاربت مدّة العرض ثلاثة أرباع الساعة، حملت الكثير من لغة التطرف في موقف الشخصيّتين، كردّ فعل على عالم لا يخلو من القسوة المستمرة، وهذا الطابع تركه النصّ الأساسي للكاتب البولندي «إرينيوش أريدينسكي 1939- 1985» الذي عاش فترة من الصراع المجتمعي والطبقي وأثر الحرب العالميّة الثانيّة على الناس، ولذلك اتهمه البعض بفكره التشاؤمي، وقد كان لإسقاطات العرض قرب حقيقي ممن عاش ظروف الحرب والأزمة السوريّة ضمن تقريب للحياة الداخلية في بيوتنا كسوريين، وقد كان في العرض تكامل جميل بين السينوغرافيا لـ«ولاء طرقجي»، وبين تصميم وتنفيذ الإضاءة لـ«أوس رستم»، ومن الملاحظات التي يمكن ذكرها أيضاً أن العرض لم يعتمد على الموسيقا أو المؤثرات السمعيّة باستثناء أغنيّة للراحلة «وردة»، والتي تمت انتقاءها كمثال لحالة الحب والانسجام السابقة التي عاشها الزوجان، بقي أن نذكر بأن الدراماتورجيا كانت لـ«وسيم الشرقي»، وقد أقيم العرض في المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دمشق في «استديو رقم 4– استديو شريف شاكر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن