الأولى

رثاء من نوع آخر

بنت الأرض :

منذ بضعة أيام ظهر خبر عاجل على الشاشات: «وفاة رئيس المؤتمر العراقي، أحمد الجلبي، إثر نوبة قلبية». جملة وحيدة تُلخّص حياة إنسان قبل أن يذهب في طيّ النسيان وإلى الأبد. توقفتُ عند الجملة، وعند الاسم، وراجعتُ في مُخيّلتي كلّ المواقف التي اتخذها أحمد الجلبي لمصلحة الاحتلال الأميركي للعراق، وافتخاره بالقدوم إلى كردستان مع الضباط الأميركيين، ومن ثمّ تنقّله على طيارة أميركية، وعلاقته مع الخوئي الذي قُتل بعد ذلك في ظروف غامضة. واستعدتُ أيضاً إخفاقه في دخول البرلمان العراقي لأن الشعب العراقي لم يصوّت له ولأمثاله، وأعدتُ مشاهدة بعض المقابلات التي أجريت معه بعد الاحتلال الأميركي للعراق لأرى إن كان هناك من غصّة في قلبه أو أسف على المسار الذي اتخذه، أو حُزنٍ على البلد الذي ساهم في وضعه تحت نير الاحتلال، فلم أجد إلى ذلك سبيلاً. وحاولتُ التماس الأعذار بأن هذه المقابلات من الماضي، وأنه لا بدّ أن يكون قد شعر في السنوات الأخيرة أنه كان ابناً ضالاً للعراق، ساهم بتدميره بحجّة التخلّص من صدّام حسين، وتبنّي النظرية الأميركية في البحث عن أسلحة دمار شامل، ولم يكن له من إرث العراق وتاريخ العراق سوى الاسم فقط، إذ لا يكاد المرء يميّز أبداً بين طروحاته في ذلك الوقت والطروحات الأميركية التي استهدفت وحدة العراق وشعبه وحضارته وتاريخه ومستقبل أجياله.
والسؤال هو: ألا يعلمُ كلّ منا أن كلّ ما سيتركه بعد رحيله هو تلك الجملة فقط التي تشير إلى أنه كان موجوداً يوماً ما؟ ولكنّ الأهمّ هو ما نوع الوجود الذي حقّقه وما نوع الإرث الذي تركه؟ أورغم إثبات قصر الحياة أمام أعيننا آلاف المرات، مازلنا نرفض أن نفكّر أن وجودنا مؤقت على هذه الأرض، وأنّ الخلود للأعمال والأوطان؟! أورغم اندثار كلّ من باع وطنه من دون أثر، مازال البعض يتجرّأ أن يضع يده في أيدي من يستهدفون بلاده طمعاً بمال أو مركز أو جاه أو مكانة؟! أورغم كلّ التاريخ الذي يشهد كيف استخدم المستعمرون أبناء جلدتنا وترابنا ضدّ مصالح بلدانهم ثمّ انتهوا من دون أثر، مازال البعض يرى في المستعمِر مُنقِذاً، وفي القوى التي تستهدف وجودنا وبلداننا حليفاً ومُرشداً؟
لقد أثبت التاريخ، من دون أدنى لَبْس، أن الأمم التي نهضت وأصبحت ذات شأن، هي الأمم التي امتلكت ناصية العقل الجمعيّ، وتخلّصت من الشخصنة والأنا، وتأكدت أن الأشخاص عابرون، وأن البقاء للأوطان والعمل الصالح والتضحيات الغالية في سبيل هذه الأوطان. ولو كان الوطن وإعلاء شأنه هو الهدف، لما رأيت حركات تحررية ومقاوِمة تتشرذم إلى فئات وفصائل تضعف الجسد الأساسي، وتجعل الهدف المراد تحقيقه بعيد المنال. لقد اكتشفت الصين منذ أربعين عاماً أهمية العقل الجمعيّ الإستراتيجي، حيث يُدرسُ كلّ شيء، حتى الإنجاب، من وجهة نظر وطنية بحتة، ويلتزم المواطنون جميعاً، مع أنهم يبلغون ملياراً وثلاثمئة مليون، بالقرار الذي تتخذه الدولة، لأن مصلحة الدولة هي المصلحة العليا التي تمثّل مصلحة الجميع وتضمن عزّهم وكرامتهم. الصينيون يتكلّمون همساً، ويكتبون كلّ فكرة أو رأي كي يسهل تداولها من الجميع، ويسيرون أسراباً، ويعملون جماعاتٍ، وأعينهم جميعاً شاخصة على إنجاز الهدف الوطني فقط. متى سيدرك العرب أن الأشخاص زائلون لا محالة، وأنّ العمل مع الأعداء والمستعمرين لا يورث أصحابه سوى الخزي والعار في الحياة وبعد الممات، وأنّ البقاء للذكر الحميد والأوطان؟ متى يعمل العرب من أجل جيل أو جيلين قادمين، ولا يحصون انتصاراتهم بفوائدهم الشخصية أو بالمواقع التي يحتلونها شخصياً، بل بمقدار مساهمتهم في منعة وعزّة بلدانهم؟ لا بدّ من البدء على الأقل بتكوين وتطوير وعي مجتمعي يدخل في مناهج تدريسنا وأساليب عملنا، ويعدّ الأجيال القادمة كي تحمل هذه الأمانة الوطنية الثقيلة بكفاءة ونجاح. كلّ الأعمار قصيرة مهما طالت، والخلود للعمل الوطني المخلص الذي يترك أطيب الثمار حتى بعد توقّف قلب صاحبه عن الخفقان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن