اقتصاد

حكومة الغيبوبة!!

علي هاشم :

أسوأ ما يمكن للمرء أن ينتظره من حكومة، هي تلك الحالة من الغيبوبة التي اعتملت حكومتنا لما يزيد على أسبوع خلا توازياً مع تعمق المنحى الهابط لليرة السورية.
لوهلة، بدت الحكومة وكأنها في برزخ آخر، حتى أن بعضنا حاول فهم تجاهلها التام لقضية الليرة في جلستها الأسبوع الماضي، على أنه تورط «أو على الأقل تواطؤ بناء» تتطلع من خلاله إلى إعادة ضبط قيمتها التعادلية عبر خفض سعرها، بعدما لم يترك لها فشلها في استنهاض الإنتاج الوطني طريقاً غيره.
على الأرجح لم يكن الأمر كذلك، وبعيداً عن تناسبية التفسير المعقد اللازم لإشباع إحساسنا بهول القضية، فقد كانت الحكومة أسيرة حالة إنكار «فرويدية» اندفعت إليها في سياق دفاعها السلبي عن النفس، تماماً كتلك الحالة الغريزية التي تجعل من دفن الرأس قيمة دفاعية لدى النعام.
وبغض النظر عن صوابية شكوكنا، فعلى الحكومة أن تدرك جيداً بأن مخاطر التضخم قد تتخذ منحاً درامياً عند عتبة ما، متحولة إلى تهديد حقيقي لوحدة البلاد النقدية التي لم تستطع تفتيتها فتاوى «الإخوان المسلمين» الاندماجية بالعملة التركية لمناطق سيطرة القاعدة شمال سورية، كما لم تستطع ذلك «بدعة» دنانير داعش الذهبية التي أخذت السلطات الأمنية التركية على عاتقها مهمة إنقاذ «الدولة الإسلامية» من تهمة دجلها تلك، مفبركة عملية مصادرة قوالب صكها وهي التي لم تستطع أن تلمح مئات آلاف الأطنان من الأسلحة والأعتدة وشحنات النفط والإرهابيين المتنقلين عبر أراضيها جيئة وذهاباً.
تتلخص أسباب بقاء الليرة عملة رئيسية للتداول في المناطق خارج سيطرة الدولة بتناسبيتها ومرونتها كمعادل قيمة للسلع الاستهلاكية المحلية الرخيصة نسبياً، إلى جانب الممانعة الشعبية للتداول بغيرها، وفي الواقع، فلكلا الأمرين نهاية حدية تتناسب سرعة الوصول إليها طرداً مع تزايد نسب التضخم التي ما أن تصل إلى «عتبتها الحرجة» حتى ينفض سكان تلك المناطق عن ليرتهم لا إرادياً، مقبلين على «الدولرة» ما لم يستسيغوا الليرة التركية.. وإذ ذاك، ستشهد ليرتنا هبوطاً إثر خسارتها قسماً وازناً من الإنتاج الزراعي الذي أعادت الحرب تصنيفه كالكتلة الأبرز من الناتج المحلي الإجمالي.
لا أحد يمكنه فهم الإستراتيجية النقدية الحكومية «بفرض وجودها»، وحكومتنا تبدو مرتاحة لذلك، فمن خلال «غموضها البناء» تستطيع الاستمرار في سلسلة ردود أفعالها المستسلمة على جبهات الحرب التي تخوضها، مكتفية بالهجمات الكلامية عن إجراءات سرية وتدخلات حمائية «غير اعتيادية» لليرة، لا قدرة لأحد على تتبع أو فهم أو قياس نتائجها.
لكن التطور اللافت في الإستراتيجية «السرية» إياها، أوصل «حكومة الحرب» في جلستها الماضية إلى الاكتفاء بتداول شؤون مصارف المياه في شوارعنا استعداداً لفصل الشتاء على حين هبوط الليرة الوطنية يتمادى في إحدى ذراه التاريخية، وفي الواقع، كان من المستحسن أن تأخذ الحكومة بالجناس اللفظي على محمل الجد، وتناقش حاجتنا الماسة إلى تصريف «الكتلة النقدية السائبة» من الليرات السورية التي ما فتئت ترسّخ ضغطاً متزايداً على قيمتها، متيقنة من أنه لا سبيل إلى ذلك سوى بإعادة الإنتاج من السلع الملموسة والخدمات إلى مستويات مناسبة قبل وقوع الطوفان الاقتصادي الجارف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن