الأولى

مصر: التموضع المُكلِف

بيروت- محمد عبيد :

أثار سقوط أو إسقاط الطائرة الروسية في سيناء جملة من الأسئلة المتشعبة التي تستهدف مصر قبل روسيا أو سورية. فالموقع الجغرافي مصري، والضحايا الركاب كانوا يستجمون في جوهرة مصر السياحية، وإجراءات الحماية الأمنية المفترضة لهم مسؤولية مصرية، والحملة الإعلامية الأميركية والبريطانية خاصة والغربية عامة نالت من سمعة مصر وهيبة سلطتها أكثر مما شمتت روسيا. واليوم، حتى ولو تبين أن سبب سقوط هذه الطائرة كان تقنياً وليس نتيجة فعل إرهابي فإن الضرر الأقسى والخسارة الأمضى تكبدتهما مصر مباشرة وعلى المدى الطويل. طبعاً، يأتي هذا التوصيف في الإطار السياسي ولا يقلل من شأن الخسارة البشرية التي طالت مواطنين روساً أكانوا ضحايا مظلومين على أيدي «داعش» وأخواته أم ضحايا حادث طيران عادي.. بانتظار نتائج التحقيق الرسمية كي تصح تسميتهم.
على أن الأهم مصرياً هو أن هذا الحادث أتى في توقيت يحاول فيه النظام المصري الجديد تلمس إمكانية التموضع بطريقة تجنّبُهُ التصادم مع حلفاء مفترضين كواشنطن والرياض وتسمح له بتعزيز اتجاهه نحو بناء علاقة إستراتيجية مع موسكو وتبقيه على مسافة حيادية مقبولة من قضايا المنطقة العربية والإسلامية الساخنة.
لكن هل اعتقدت القاهرة للحظة أنه سيُسمح لها بأن تنجز هذا التموضع بسلاسة وأمان؟ فمصر بشعبها وجيشها التي كان لها الفضل الثاني بعد سورية في إسقاط مشروع جماعة «الإخوان المسلمون» في وطننا العربي، استفزت واشنطن ولندن الراعيين الأساسيين لهذه الجماعة وأغضبت النظام السعودي الحليف المستجد لها الذي كان يحاول المواءمة بينها وبين بنيته الوهابية وأربكت أردوغان ونظامه الذي ضَمِن مصر-مرسي وأخذ يتحضر لإعلان سلطنته في حال انتصر في عدوانه على سورية.
ومصر التي انكفأت عن مشاركة النظام السعودي وحلفه الخليجي في العدوان على اليمن والتي تهربت من استكمال تكوين القوة الأمنية العربية المشتركة، خسرت ما لم تحصل عليه أصلاً من المكرمات السعودية المالية الموعودة وهي في طريقها إلى خسارة موقع الأمين العام لجامعة الدول العربية بعد اتجاه دول مجلس التعاون الخليجي إلى ترشيح بديل عُماني من نبيل العربي.
ومصر- السيسي التي لم تتجرأ حتى اليوم على إعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع سورية رغم حفاظها على مستوى محدود من هذا التمثيل سمح لدمشق النظر بإيجابية أيضاً محدودة لحركة القاهرة الحوارية تجاه بعض ما يسمى «المعارضة السورية غير المسلحة» انطلاقاً من حرصها المعلن على وحدة سورية شعباً وجيشاً ومؤسسات، ومصر التي أيدت المشاركة الروسية علناً وجهاراً في الحرب على الإرهاب في سورية، ومصر غير المسموح لها أميركياً ولا إسرائيلياً ولا سعودياً بالانتصار على المجموعات الإرهابية المتمكنة من مناطق حيوية وحساسة في محافظة سيناء، ومصر التي تجرأ وزير خارجيتها سامح شكري على الاجتماع مرات ثلاث مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في غير عاصمة دولية بعد أن كانت من الأوائل الذين أيدوا الاتفاق النووي الغربي-الإيراني..
مصر هذه تبدو الآن أمام تحدٍ خطير تصعب مواجهته إن لم تمتلك قيادة الرئيس السيسي الأجوبة المُقنِعة للشعب المصري أولاً الذي كان انكفاؤه عن المشاركة في الانتخابات البرلمانية تعبيراً واضحاً عن إحباطه نتيجة عدم ترجمة ثورتيه الإصلاحيتين إلى وقائع سياسية واقتصادية صحيحة، وثانياً لكل من ينتظر منها العودة إلى ريادة مشروع قومي بالتكامل مع سورية يحمي نسيجها الاجتماعي وثقافتها التاريخية مما يُسقط الاصطفافات المذهبية والطائفية فيها وحولها التي يبدو أن بعض مواقع الأزهر الشريف باتت مرتعاً لها وخاصة أن بعض وجوه النخب المصرية الإصلاحية سمعت من السيسي شخصياً قبل انتخابه رئيساً تأكيده أنه «ناصري» الهوى، وثالثاً لأن قوة الدول تقاس بقدرتها على التحرر من الارتهان السياسي والتبعية الاقتصادية وهو ما يمنحها دوراً للتأثير في الأحداث بل صناعتها ولا تقاس فقط بحجمها الجغرافي أو تعداد سكانها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن