ثقافة وفن

عاش غريباً.. مات غريباً.. يدفن غريباً… وينتظر العودة! … عبد الرزاق عبد الواحد شاعر الإباء والوفاء .. بلاغة حب الوطن ولدمشق نصيب من العشق

إسماعيل مروة :

بعد صراع مع المرض يرحل الشاعر العراقي الكبير بكل مقاييس الكبر عبد الرزاق عبد الواحد، يرحل ومن غرفته في مشفاه ينادي العراق، يستنجد بالعراق الذي عرفه وأحبه، ووصيته أن يعود جثمانه إلى عراقه الذي أعطاه شعره وحبه وحياته، ولكن بعد أن يعود العراق كما قال حراً..
عبد الرزاق عبد الواحد قد يكون من الشعراء القلة الذين حافظوا على قناعاتهم، ولم تتبدل آراؤهم بتبدل الظروف، فبقي وفياً لكل ذرة تراقب عراقية، ولكل موقف نبيل كان معه، وجاهر بآرائه في كل مكان، وكان خصومه يأخذون عليه هذه المواقف الحادة، برأيهم، والتي لم تتبدل بتبدل الظروف، وبرحيل الأشخاص.

كبرياء الشعر
في أمسية شعرية في جامعة الإمارات رأيت عبد الرزاق عبد الواحد أول مرة، وكانت تشاركه اللقاء الشاعرة العراقية وقريبته لميعة عباس عمارة، وذلك في كليات الطالبات، القاعة تغصّ بالطالبات، والمشرفون حضروا، همس أحدهم في أذن الشاعر طالباً منه ألا يغوص في الغزل الصريح الذي عرفه شعره الغزلي، نظراً لأن الجمهور من الطالبات فقط، هزّ الشاعر رأسه، وعلى المنبر ألقى مقطعات، واندار إلى الغزل، فألقى قصائد قد لا يختارها لولا تلك الإشارة، وكان الغزل أكثر من صريح، وتفاعل الجمهور، وأحرج المشرفون، لكن الشاعر الكبير قال: هذا أنا، وهذا شعري المنشور والموجود في كل مكان، وأنا لا ألغي جزءاً مني.. كبرياء الشعر لم يسمح للشاعر أن يكون شاعر مناسبة، وأن يلقي حسب الطلب، وحسب الحالة، وخرج بقامته الشعرية العملاقة غير مكترث بأي رأي مهما كان الرأي، فشعره هو الذي يحتفى به، وليس هو من يحتفي بالناس والحضور، وكم يحتاج شعرنا هذه النوعية من الشعراء الذين يضعون أشعارهم في المكان الذي تستحق.

الموقف الثابت
في المركز الثقافي العربي بالمزة أقيم حفل في ذكرى رحيل الشاعر العراقي الكبير مصطفى جمال الدين، وكان عبد الرزاق مقيماً في دمشق في تلك الآونة، وكان الجمهور على موعد مع قصيدة له في الراحل، كان الحفل كبيراً، وشهد إقبالاً كبيراً، وكانت الشام مهوى أفئدة العراقيين آنذاك، ومن مختلف التوجهات، وبعد وقت قليل من بدء الحفل تقدم أحد الخطباء، فتعرض للعراق، وللحقبة البعثية السابقة، ولم يكن أحد يتخيل الثورة التي ثارها عبد الرزاق عبد الواحد، وهو يلوّح بالأوراق التي أعد قصيدته عليها، وهو لا يسمح لأحد أن يتناول العراق خارج العراق، ولا أن يتناول رموز العراق التي أحبها عبد الرزاق عبد الواحد وارتبط بها، وكان يصرخ بأعلى صوته نعم أنا شاعر العصر السابق، وأحب العصر السابق…! ثورة غير متوقعة من عبد الرزاق عبد الواحد الذي واجه وحده سيلاً من المخالفين، ولم يقبل إلا بخروج من شتم العراق ورموزه من القاعة.. وحين صار ما أراد خرج إلى المنبر ليتغنى بمصطفى جمال الدين وعمامته وعلمه وشعره.. لا يذهب من الخاطر هذا الموقف للشاعر الكبير الذي أثبت وفي كل مكان أنه رجل موقف، وفي إحدى القنوات الخليجية، وكانت الحرب على العراق بعد غزو الكويت على أشدها لم يقبل أي نقد للعراق ورموزه، بل ألقى ما شاء من شعر يمجد العراق ومن فيه.. هذا الرجل بقامته الربعة لم يفاخر يوماً إلا بالعراق، ولم يكترث لطائفة أو مذهب أو قومية، وكان في كل لقاء يفاخر بالصابئة على أنها مكون من مكونات العراق لا تنعزل عن أي مكان أو مكوّن.
إنه الشاعر الذي عرف مكانته الشعرية العالية، فطار إلى قمة الشعر إباء، وكان موقفه منسجماً مع تسمية الشعر العظيم.

شاعر الجميع
لم يكن عبد الرزاق عبد الواحد منتمياً إلى النجف الأشرف، ولا إلى بغداد، ولا إلى أي طائفة من الطوائف والمذاهب الكبرى، لكنه كان شاعراً من النسق الأعلى، يرى نفسه وشعره أعلى من أي تصنيف، لذلك يقلّد به رقاب الجميع، ويجعل الناس مفاخرين به وبشعره، هو الذي أهدى جلّ شعره لقيادة العراق، وحمل اسم «شاعر القادسية» و«شاعر أم المعارك» أعطى درر شعره كذلك للنجف الأشرف، ولشعرائه، وللحسين، ولكل رمز من رموز التاريخ، لأنه كان ينظر إلى الرمز بمقدار أثره العراقي، وليس بمقياس الانتماء الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، ولو كان عبد الرزاق عبد الواحد صاحب نظرة ضيقة ما صاغ مناجاته لهؤلاء الذين يراهم رمزاً لعراقه، وليسوا رمزاً لفئة، ومن يقرأ شعر الشاعر في الإمام الحسين يلمس ذلك الصدق الذي يبتعد عن البكائية ليقدم صورة نقية مشرقة لشغف شاعر برمز:
قدمت وعفوك عن مقدمي
حسيراً، أسيراً، كسيراً، ظمي
قدمت لأحرم في رحبتيك
سلام لمثواك من محرم
فمذ كنت طفلاً رأيت الحسين
ملاذاً بأسواره أنتمي
ومذ كنت طفلاً وجدت الحسين
مناراً إلى ضوئه أحتمي
ومذ كنت طفلاً عرفت الحسين
رضاعاً وللآن لم أفطم
كأنك أيقظت جرح العراق
فتياره كله في دمي
وإن خانك الصحب والأصفياء
فقد خاننا من له ننتمي
بنو عمنا، أهلنا الأقربون
واحدهم صار كالأرقم
تدور علينا عيون الذئاب
فنحتار من أيها نحتمي!
لم أقرأ على تواضع قراءتي مرثية في الحسين، أو قصيدة في رحابه تلوذ كما هي قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد، الذي لم يأت حاملاً هماً شخصياً أو مشكلة مذهبية، ولم يأت لينوح، وإنما جاء ليستعين بإباء الحسين، ويستعيد ذكرى كربلاء، ويشكو بين يديه الأقارب الذين فعلوا بعراق اليوم ما فعله أصفياء الحسين به.. ترى لو وقف عبد الرزاق أمامه وهو يرى ما يجري في سورية التي أحبها فماذا سيقول؟

رثاء الذات والعراق
وحين يبكي الشاعر شاعر العراق أحمد الصافي النجفي يرثيه كأنما يرثي نفسه:
هذي محطاتنا، فامشي على مهل
نلقي على بعضنا تسآل مرتحل
هذي محطاتنا تطوي الحياة بنا
مفازها بين مخضوب ومشتعل
يا شيخ غربتنا تبقى تعلمنا
حياة مثلك معنى الموت في القلل
هذي مقاديرنا نبقى نصرّفها
كما جبلنا، فتطوينا على عجل
نحن البعيدون إلا عن مقاتلنا
في ذروة الياس أو في ذرة الأمل!
وعندما يصله خبر وفاة الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري ينظم درة شعر لا رثاء في وفاته، وفي اليوم الثالث لوفاة الجواهري، وكأنما هي من نسج الجواهري لغة وروحاً وشعراً، مع ما بين الشاعرين من خلاف في المواقف، إلا أن رثاءه رثاء نفس، ويؤكد أن انتماء عبد الرزاق عبد الواحد هو للعراق، وليس الانتماء لأي شيء آخر:
يا شيخ شعري ويا شيخي وشيخ دمي
من لي بأن أفتديك الآن محتسبا
قالوا هرمت.. وعمري لم أجد هرماً
مرآه يمنح حتى الميتين صبا!
يا ذا المسجى غريباً والعراق هنا
يشقّ قمصانه في البعد منتحبا
وتصرخ النجف الثكلى مروعة
رجع المآذن فيها يفزع القببا
وأنت تنأى فتلوي ألف مئذنة
رقابها، ويضج الصحن مضطربا
علمتني كيف أهدي للعراق دمي
شعراً، وأخشى العراقيين إن نضبا
ومن أبدع ما قاله في تكريم الراحلين قصيدته في رثاء نزار قباني:
يا نزار الحب هل من لغة
تحتفي بي ولسانٍ ذلقِ
يا صديقي يا نسيبي يا أخي
يا عراقي الهوى والرّهق
هل بقايا مرحبا تسمعها
منك آذان العراق المرهق
علها تمسح من أوجاعه
علها تجمع بعض المزق
علها تصبح أدمى مرحبا
تتهادى نحوه من جلق
إن حرفاً بالهوى محترقاً
عِدْل حرف باللظى محترق
ليت هذا الكون يغدو كله
عاشقاً لا غارقاً في العلق!
كان عبد الرزاق عبد الواحد شاعراً من الطبقة العليا شعراً وروحاً وموقفاً، أحب الجميع من دون نظر إلى انتماء، المهم عنده أن يكون العراق حاضراً، وأن يكون الإنسان عاشقاً.
رحل اليوم عبد الرزاق عبد الواحد تاركاً خمسين ديواناً شعرياً، وموقفاً لا يتبدل، وعشقاً للشعر والوطن لا ينتهي، وحسبنا أن نتعلم من هذا الشاعر آلية الحب، وأن نتعلم الثبات على تغير المواقف، وأن تبقى قلوبنا معلقة بأوطاننا مهما عصفت بها رياح الغدر والحرب والدمار.. فليس أكثر حناناً وحدباً على أرواحنا من تراب الأوطان، ومن واجبنا أن ننقل لأبنائنا وطلابنا، وللأجيال القادمة شعر هذا الشاعر السلس القوي الجزل، لعلّ مسكة الأدب الرفيع تعانق أرواحهم، وإن عجزوا فليلتمسوا كبرياء الشعر والتفاني في حب الوطن.
من العراق خرج، وعز مجده كان في العراق، ودار أرض العروبة فكرّم في دمشق وعاش سنوات من السعادة والشعر، وطوى المحيط والخليج، وها هو يعانق روح العراق في باريس، وتعجز الأجهزة الطبية عن حجب صرخاته التي أطلقها في الرمق الأخير «عراق» قالها، وقال: في الرمق الأخير..! ودّع عبد الرزاق عبد الواحد تاركاً قوافيه وحياة حافلة تمثل قمة الانتماء للوطن والتراب لا للقبيلة والمذهب والطائفة.. فهل نبقيه بيننا؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن