قضايا وآراء

العقوبات.. سلاح التدمير الشامل

| تحسين الحلبي

كانت الدول عبر التاريخ تشن الحروب ضد بعضها باستخدام قوات مسلحة ضد قوات مسلحة أخرى ومن تنتصر قواته يصبح مسيطراً وكان كل عمل عسكري ضد المدنيين يعد انتهاكاً لأعراف وقوانين الحرب بموجب المواثيق التي أجمعت عليها كل الدول في ميثاق جنيف والأمم المتحدة، لكن هذا الوضع كانت الولايات المتحدة أول الدول التي تنتهك قوانينه إلى جانب الدول الاستعمارية الكبرى، فحين تمكنت الولايات المتحدة من امتلاك أول قنبلتين نوويتين وقذفتهما فوق مدينتين في اليابان عام 1945، ظهر للعالم كله أول سلاح يطلق عليه اسم «سلاح التدمير الشامل» لأنه «يقتل ويبيد البشر والحياة والبنى المدنية والحيوية من دون تمييز وبشكل شامل»، وهذا هو التعريف العالمي له، فالقتل والإبادة من دون تمييز يعنيان قتل الأطفال والنساء والمسنين وإبادة البنى المدنية الحيوية والاقتصادية وبشكل شامل، وهذا ما فعلته القنبلتان النوويتان في مدينتي وسكان هيروشيما وناكا زاكي خلال ساعات في اليابان إيذاناً باحتلالها.
يبدو أن الولايات المتحدة لم يعد بمقدورها لأسباب كثيرة استخدام القوة النووية ضد عدد من الدول وشعوبها في هذه الظروف، فابتكرت سلاح تدمير شامل جديداً هو العقوبات الاقتصادية، والفرق بين هذا السلاح وبين القنبلة النووية التي استخدمتها ضد اليابان لفرض الاستسلام عليها واحتلالها هو أن السلاح الجديد أي العقوبات الشاملة على دول مثل سورية وإيران وفنزويلا وكوبا وكوريا الديمقراطية، سيتطلب استخدامه وقتاً طويلاً لتحقيق هدفه بالقتل والإبادة الشاملة، بخلاف القنبلتين اللتين استخدمتهما ضد اليابان وحققتا الهدف الوحشي غير المسبوق خلال ساعات.
ويتبين من ردود الفعل التي يعلن عنها عادة محللون وشخصيات سياسية في عدد من وسائل الإعلام العالمية المناهضة لسياسة العقوبات الأميركية أن هذه العقوبات تقتل المدنيين وليس الجيوش التي تعلن الولايات الحرب عليها، وكان من بين ردود الفعل هذه ما كتبه البروفيسور الأميركي دانييل لاريسون من جامعة شيكاغو حين أكد في مقال نشره في المجلة الإلكترونية الأميركية «أنتي وور» أمس الأربعاء تحت عنوان «العقوبات سلاح يستخدم دون تمييز» أن «إدارة الرئيس الأميركي جو بايدين قررت الاستمرار باستخدام العقوبات ضد سورية وغيرها، وهي تعرف أن هذه العقوبات تطال حياة الجميع في هذه البلاد».
ولا شك أنه من الواضح بأن هذه العقوبات تؤدي بشكل مباشر إلى تعريض حياة المدنيين من أطفال ونساء ومسنين للأخطار المتفاقمة وتعريض البنى التحتية الحيوية للحياة من اقتصاد وحاجيات أساسية للإبادة ما دامت الولايات المتحدة تستمر المتحدة وبهذا الشكل الملموس وتتحول إلى وسيلة قتل من دون تمييز وبشكل يشمل كل المرافق الحيوية للحياة الاقتصادية، ولولا صمود الشعب السوري وانتزاعه بكل الطرق المتاحة للمتطلبات الأساسية الحيوية، ودور الدول والقوى المتحالفة معه، لكانت هذه العقوبات ولّدت أخطاراً ونتائج أكبر مما ولّدته حتى الآن وخاصة من ناحية التصدي لوباء الكورونا وقدرة الحكومة على تأمين كل ما يحتاجه المواطنون من لقاحات وعلاج لم تستطع كل العقوبات الأميركية منع وصولها إلى سورية.
تصوروا بشكل افتراضي لو أن الولايات المتحدة كانت هي الدولة الوحيدة في العالم التي تصنع اللقاحات وأدوية العلاج وتوزعها كما تشاء من دون منافسين في الساحة العالمية، فماذا يمكن أن تفعله ضد الدول المناهضة لهيمنتها والمتصدية لأشكال عدوانها؟ ستلجأ بالطبع إلى منع اللقاحات عن هذه الدول وتعريض شعوبها للموت على غرار ما فعلته ضد اليابان عام 1945، ففي ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة تعرف أنها الدولة الوحيدة التي تملك القنبلة النووية ولن تهددها أو تردعها أي دولة إذا ما قامت بهذا العمل الوحشي للقتل والإبادة من دون تمييز، لذلك كانت الولايات المتحدة تتمنى هي وبريطانيا ألا تتمكن في هذه الظروف الراهنة أي دولة أخرى من صنع اللقاح المضاد بالسرعة الممكنة لكي تحتكر عرض هذا اللقاح وحدها واستخدام مسألة نقله لدول أخرى أو منعها من الحصول عليه كسلاح للتدمير الشامل، لذلك حاول الغرب كله والولايات المتحدة في طليعته التشكيك بقيمة وصلاحية اللقاح الروسي الذي كان أول لقاح يعرض على الجميع من دون تمييز للتصدي لوباء الكورونا، ثم عادت بريطانيا واعتذرت عن هذا التشكيك قبل أسبوعين.
وهذا يثبت أن سياسة الولايات المتحدة لا تعترف بأي قيمة مثلى للبشرية منذ قصفها لقنبلتين نوويتين على اليابان في القرن الماضي وابتكارها سلاح العقوبات على الدول والشعوب بأكثر الطرق وحشية في هذا القرن، ولو امتلكت، لا قدر اللـه سلاح مطلق تهدد فيه البشرية ولا رادع له ولا منافس لها في صناعته، فإن ذلك سيشكل أكبر الأخطار على البشرية كلها لأنها لن تتوقف عن استعباد واستغلال البشرية إلا بالردع المباشر وبالقوة التي تتفوق عليها، وها نحن نرى أنها الدولة الوحيدة التي تفرض العقوبات على دول كثيرة وتجند الدول المتحالفة معها أو الخاضعة لها لفرض العقوبات نفسها، على حين لا تفعل ذلك الصين وروسيا برغم قدرتهما على فرض العقوبات الاقتصادية على خصومهما بل يردان على عقوبات الولايات المتحدة ضدهما.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن