قضايا وآراء

فرز «الحركات التكفيرية»

مازن بلال :

مهام المجتمعين في فيينا إعادة تشكيل خريطة الإرهاب في سورية، وبغض النظر عن أي نتائج سياسية لهذا العمل، فإن «التكوين التكفيري» يتجاوز ذلك الإطار السياسي الذي يحاول رسم الصراع في سورية ما بين فصائل معتدلة وأخرى «إرهابية»، وحصر التحول الذي يضرب المنطقة داخل «الجغرافية السورية»، فالأزمة قائمة اليوم على الاستفادة من «البنية» التي تطورت في شرقي المتوسط، وشكلت هدفا يمكن من خلاله النفاذ إلى المنطقة، وتحويلها إلى نقطة تماس بين القوى الدولية يتم عبرها بناء شبكة مصالح دولية جديدة.
عمليا فإن الاجتماعات التي بدأت في فيينا لا تنطلق فقط من قاعدة مختلفة في رؤية الأزمة السورية، بل تقدم أيضاً صورة مختلفة لتظهير «الحركات التكفيرية» وفق اتجاهين:
– اعتبار تلك الحركات عاملا في إحداث تحول في النظام الجيوبولتيكي للمنطقة، فالولايات المتحدة استخدمت هذا العامل في حربي الشيشان الأولى والثانية، وهي تستخدمه اليوم ضمن سعيها لإعادة توزيع «القوة» داخل نظام الشرق الأوسط.
ما يمكن أن تقدمه العملية السياسية عبر فرز المجموعات المسلحة لدمج بعضها في العملية السياسية؛ هو إعطاء الشرعية للدول في استخدام «المجموعات التكفيرية» ضمن علاقاتها الإقليمية، ورغم أن النظام الدولي لا يخلو من مثل هذا الاستخدام، إلا أنه اليوم يتجاوز العوامل الإقليمية، ليرسم قاعدة في العلاقات الدولية تفتح ثغرات واضحة أمام «الحركات التكفيرية» لاستخدام جبهات متعددة.
– توطين الإرهاب في الشرق الأوسط اعتمادا على «إيديولوجيا» التكفير، فالفرز الذي يمكن اعتماده من «مجموعة الاتصال» في فيينا سيعتمد معيارا تنظيميا فقط مثل «داعش» أو «النصرة»، وسيتيح بالتالي للكثير من المجموعات التكفيرية التي ساندتهما أو تبنت «عقيدتهما» التحرر من تهمة الإرهاب بمجرد إعلانها الانفصال عن التنظيمين السابقين، رغم أن جميع الفصائل المسلحة في سورية اعتمدت على مقاتلين أجانب؛ الأمر الذي أدى لاحقا إلى إثارة «حركة هجرة» نحو سورية من آسيا وإفريقيا وأوروبا، تبعتها هجرة معاكسة من العراق وسورية نحو أوروبا.
إن الحرب في سورية بينت أن الفوارق بين التشكيلات التكفيرية هي خلافات مرتبطة فقط بالقوى الإقليمية التي تستند إليها تلك التنظيمات، فالمشهد العام من العراق إلى لبنان لا يوحي إلا بالتأثيرات المتبادلة لهذه التنظيمات، فهي تترك بصمتها بشكل سريع على الحدث، وتتحرك وفق الفتوى نفسها رغم عدم ارتباطها تنظيميا، فولاءاتها مرنة وقادرة على إعادة تشكيل نفسها مستغلة أي مساحة فوضى ممكنة، وسيطرتها على الجغرافية بدأت تشكل مجالا لجميع التدخلات العسكرية، ويخلق تحولا ديموغرافيا ستعاني منه سورية بشكل خاص لوقت طويل.
وإذا كانت اجتماعات فيينا مسؤولة عن إيجاد آليات لحل الأزمة السورية، فإنها في الوقت نفسه تكرس رؤية جديدة في التعامل مع سيادة الدول استنادا لوجود «الجماعات التكفيرية»؛ فهم العامل الأساسي في إعادة النظر إلى الأولويات الدولية في الموضوع السوري، ومن جانب آخر فإنها تعترف بالنتائج التي أوجدتها هذه المجموعات، وبالتقسيمات التي تتجاوز سيادة الدول نتيجة سيطرة «داعش» أو «النصرة» أو غيرها على مساحات جغرافية في سورية والعراق.
وما يمكن قراءته اليوم في توزع المجموعات التكفيرية يقدم خريطة أساسية يتم تجاوزها تماما في فيينا، فالفكر الوهابي كمثال واضح؛ لم يعد محكوما في إطار سياسة داخلية تضمن التوازن داخل المملكة العربية السعودية، بل أصبح نموذجاً أثر بشكل واضح في نمو «الحركات التكفيرية»، وإذا كان تنظيم القاعدة في الماضي يشكل عصبا لتحريك المجموعات الإرهابية، فإنه اليوم ينتقل نحو التعامل بشكل مختلف مع الجغرافية ليجعلها بؤرة انطلاق تعتمد النموذج الوهابي، لكنها تنطلق به نحو كامل المنطقة.
وعندما يتم استخدام ما تقوم به «المجموعات التكفيرية» لرسم نظام جيوبولوتيكي في الشرق الأوسط؛ فإن علينا رؤية المنطقة من جديد؛ ليس كدويلات متقاتلة بل كثقافة تدمر ذاتها بشكل دوري، وتحمل معها عمليات عزل ديموغرافي يُسهل «انتشار التكفير» ليكون بنية شرق أوسطية جديدة، وهذا الرهان يتوافق مع توازنات هشة تبحث عنها الولايات المتحدة لرسم إستراتيجيتها في خلق استنزاف طويل الأمد لا يطول سورية فقط بل يصل نحو أبواب أوراسيا، وما يمكن أن تحمله «العملية السياسية» في فيينا تبدأ بفرز الإرهاب لكنه ينتقل نحو تثبيت «الحركات التكفيرية» كأمر واقع في العلاقات الإقليمية والدولية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن