قضايا وآراء

ذئاب الإرهاب لم تعد منفردة: «هلا تذكرتِ يا باريس شكوانا»

فرنسا – فراس عزيز ديب :

ما إن تناقلت وكالات الأنباء خبر العمليات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس، حتى بدأ السوريون الذين خَبِروا منذ سنواتٍ وحشيةَ أعمال كهذه، يتداولون بيت شعرٍ لـ«بدوي الجبل»، قاله عندما احتل النازيون باريس:
سمعتُ باريس تشكو زهوَ فاتِحِهَا…. هلا تذكّرتِ يا باريس شكوانا
سُمع أنينُ الشكوى «الباريسية» في أنحاء سورية، فضحايا الإرهاب هم الأبرياء ذاتهم في كل مكانٍ من هذا العالم، لكن الفاتِحين هذه المرة تغيّروا.
بحثنا -كما- الفرنسيين كثيراً عن «شارل ديغول» ليصرخ بصوته الأجشّ، فتستفيق فرنسا وكل من هو ضد الإرهاب من صدمتهم، لكننا لم نجد إلا مشاهد الدماء، وكابوساً تعامى عنه أولو الأمر لسنواتٍ عندما تجاهلوا خطورة الدعم غير المباشر للفكر المتطرف، ألم يقل لهم الأسد يوماً إن الإرهاب ليس شخصاً، هو فكرٌ. فماذا فعلتم لتوقفوا هذا الفكر؟ هل إن إيقاف هذا الفكر هو بربط مصالح الشعوب بمصالح أمراء الإرهاب في مشيخات البترودولار؟ ربما علينا هنا أن نسأل المواطن الفرنسي البسيط الذي بات يرى باريس… «مقاطعة» قطرية.
علينا أن نعترف أن الحدث أكبر من مجرد خرقٍ أمني لمجموعة «ذئابٍ منفردة» كما كان يتم تبرير مثل عمليات كهذه سابقاً، الأمر مدروسٌ بدقةٍ وعنايةٍ، وهنا يكمن التساؤل الأهم: من صاحب المصلحة الأكبر في كل ما يجري؟ تحديداً إن «داعش» كما يقول المثل العامي «جسمها لبِّيس»، فيتم تحميلها مسؤولية الحدث والتغاضي عن ما هو أهم: هل هناك فرق بين فكر «داعش» أو «النصرة» أو «أحرار الشام» التي قصفت جامعة تشرين بالصواريخ؟ فلم تقتل إلا المدنيين… واللائحة تطول.
في مثل عملياتٍ إرهابية كهذه، لا تبحثوا عن المنَفِّذ لأنه في النهاية أداةٌ متحركةٌ تتقاطع مصالحه الجزئية مع المصالح العامة لجهاتٍ أعلى. تقولون لنا إنه الإسلام المتطرف، عندها يبدو من حقنا أن نطرح هذا التساؤل: عندما بدأت فرنسا الحديث عن مشروع قرار حول حل الدولتين نهاية العام الماضي، استقبلنا العام بأحداث «شارلي ايبدو» الإرهابية. اليوم وبعد أيام من قرار الاتحاد الأوروبي بوضع ملصقٍ يميز البضائع الواردة من المستوطنات غير المعترف بها، معطوفاً على انفتاح أوروبي على إيران كان سيتجسد بزيارة روحاني لفرنسا، تشتعل باريس… هل هي مصادفةٌ؟ ليست مصادفةً، لكنها جزءٌ من الحقيقة.
عندما أطلقنا فرضية «تلاقي التطرف»، ظنّ البعض أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم باعتبار أن المتطرف يسعى لتدمير الآخر، ولا يمكن أن يلاقيه في منتصف الطريق. هذا في الإطار العام، لكن عندما يتحول التطرف بأشكاله المختلفة كعاملٍ مساعدٍ لباقي أنواع التطرف فإن من واجبهم حمايته، والأمثلة كثيرةٌ، ألم يلتقِ تطرف المحافظين الجدد مع التطرف الوهابي عبر تدمير العراق؟ ألم يعترف نتنياهو أنهم على صلةٍ بعناصر من تنظيم القاعدة في الجنوب السوري؟ هل بات تنظيم القاعدة حمامة سلام أم إن استبداله إعلامياً بداعش يجعل التعاون بينهم يمر مرور الكرام؟ هم لم يستبدلوه إعلامياً فحسب بل بات الترويج للقاعدة أمراً عادياً، فعندما حدثت التفجيرات الإرهابية في «برج البراجنة» كتب مسؤول الملف السوري في قناة «آل ثاني» مهنئاً «المسلمين» بها، بل وصف من قام بالعملية بالمجاهدين والعملية بالمحبوكة جيداً، تُرى ماذا سيكتب هذا الإعلامي المطلوب للوائح الإرهاب الأميركية بعد أحداث باريس؟ هل تصدق القيادة الفرنسية مثلاً أن إعلامياً كهذا سيكون حزيناً لما جرى في باريس؟ فمتى سيستيقظ المواطن الفرنسي خاصةً والأوروبي عامةً من هذه الغيبوبة الإعلامية التي وضعوه فيها؟ هل فكر يوماً أن يتساءل عن المال الوهابي وما يقدمه من دعمٍ عبر الجمعيات الدينية لشبان الضواحي؟ بمعنى آخر هذا الشاب لمن سيكون ولاؤه للوهابية المتطرفة أم لفرنسا؟!
من ناحيةٍ ثانية، يدرك محور التطرف في المنطقة أن الأوروبيين في أحداثٍ كهذه عادةً ما يهربون للأمام، وهذا ما يسعون إليه حتى لو اضطروا عبر الأذرع الإرهابية التي تفرِّخ هنا وهناك لإشعال أوروبا بالكامل، فلا المعارضة الفرنسية بحالٍ أفضل من الاشتراكيين لكي تحاسبهم على هذه الانتكاسة الأمنية، لأنها أساساً كانت في الحكم وهي من دعمت إرهابيي ليبيا في معركة إسقاط القذافي، ولا القيادة الفرنسية فيما يبدو بصدد إجراء مراجعةٍ شاملة لسياستها في المنطقة. بدا هذا الأمر من خلال تصريحات فابيوس قبل دخوله لحضور اجتماع فيينا عندما قال إن الأولوية لمحاربة داعش، لكن كيف وبأي منحى؟ هل بالمنحى الذي يروج له الأتراك ومعهم مشيخات النفط من خلال عمليةٍ بريةٍ في الشمال السوري مطلع العام القادم، أم من خلال الإصغاء لوجهة نظرٍ كانت طرحتها الاستخبارات الفرنسية سابقاً تتعلق بتحجيم الخارجية عن الملف السوري قدر الإمكان؟ لأن الأمر لم يعد يتحمل المزيد من التجميل لما يجري.
هذا الإصرار على التركيز على داعش يتيح لنا بشيءٍ من الواقعية القول إن الثنائي (هولاند- فابيوس) ليسا بصدد الإصغاء لصوت العقل، بل التحدث فقط كما لو أن أميراً من مشيخات «البتروديمقراطية» هو من يتحدث. بالتالي فإن ترجيح الخيار الأول يبدو أكثر واقعيةً، عندها تتحقق رغبات الجميع وأهمهم بنيامين نتنياهو، ألم يذهب نتنياهو إلى الولايات المتحدة للترويج لفكرة أن «تقسيم سورية القادم يحتِّم على الكيان الصهيوني ضم الجولان نهائياً كجزءٍ من الحصة»؟ لا شيء سوى الحرب البرية بذريعة داعش سيمكِّن جميع هؤلاء من الحصول على ما يشاؤون في سورية، عندها سنفهم ماذا يعني «التقاء التطرف» وتتضح الحقيقة كاملةً لهذه التفجيرات وغيرها، مع تأكيد أن هذه التفجيرات تعني دفع القيادة الفرنسية للتورط أكثر، لكن لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أن الفرنسيين قاموا به ليتورطوا (تحليل ساذج).
لكن ماذا عن الطرف الآخر؟
كعادتها، لا تتعاطى القيادة السورية من خلال ردات الفعل، بل تتعاطى من خلال دورها كممثلٍ شرعي للشعب السوري، لم تتجاهل القيادة السورية إدانة ما جرى في باريس كما كانت تفعل القيادة الفرنسية وغيرها بتجاهلهم لكل الأعمال الإرهابية التي استهدفت المدنيين في سورية، بل إن الإدانة جاءت على لسان رأس الهرم هذه المرة قبل وزارة الخارجية -كما جرت العادة- عند استضافته لوفد برلماني فرنسي. ربما لم يكن كلام الأسد يحمل مجرد إدانة، هي رسالةٌ مباشرةٌ قالها الأسد بوضوحٍ: جاهزون للتعاون ضد الإرهاب مع من يريد ذلك. هل ستقف الرسالة عند هذا الحد عبر الإعلام، أم إن الوفد الفرنسي سيحمل في جعبته رسائل أهم لا تُقال عادةً على الإعلام؟ أما الروس، فبدا اجتماع فيينا الأخير بالنسبةِ لهم واضح الهدف، هو فقط من أجل ضمان حلٍ سياسي شامل في سورية ضمن النقاط المتفق عليها في «فيينا1»، مع ضمان توصيف وتحديد الجماعات الإرهابية، وهذا يعني حُكماً أن التحالف (الروسي- السوري) يقاتل الإرهاب بيدٍ، ويمد الثانية لجميع المبادرات الأخرى، أي إن الحماقات التي يخطط لها البعض قد لا تبدو في الكثير من الأحيان ذات فاعليةٍ ولا حتى على المستوى الإعلامي، فالجيش السوري لا يمكن لأحد بعد اليوم أن يوقف تقدمه، وهذا بدا واضحاً من خلال ما يجري في حلب واللاذقية وريف دمشق.
الحرب على الإرهاب «لا داعش فقط كما يروجون» تحتاج لإرادةٍ واعيةٍ، لا نعلم إن كانت دماء الأبرياء الذين يتساقطون هنا وهناك كل يوم ستستنهض الضمائر، فالفكر المتطرف ليس متحولاً، هو وداعموه «ثابتٌ»، أما المتحول الوحيد فهي الهوية التي يحملها الضحايا، ولأن ضحايا الإرهاب هذه المرة فرنسيون، عندها سنقول لذويهم، نحن وأنتم ضحايا لمن لا يزال يمارس الحماقات السياسية، لمن لا يزال يبحث عن «معارضةٍ سورية معتدلة» وسط غابةٍ من قاطعي الرؤوس، لمن يريد أن يقلب النظام العلماني الوحيد في المنطقة ويحالف أنظمة من العصور الوسطى، والأهم لمن لا يزال مصراً أن نظاماً أردوغانياً يبتزهم بقضية اللاجئين يمكن أن يكون شريكاً في الحرب على الإرهاب… ما هذه النكتة؟
هي النكتة ذاتها التي تحدثت عن العثور على جواز سفرٍ سوري بالقرب من جثث أحد الإرهابيين، عندها فقط نُحيل مروجي هذا الخبر للصحفي الهولندي «هارولد دورنبوس» الذي زور جواز سفر سورياً باسم رئيس وزرائه ليسألوه:
ليس المهم مبلغ الـ«750 يورو» التي دفعتها للحصول على الهوية والجواز المزورين، المهم في أي الدول قمت بهذا العمل… أليس كل هذا يجري تحت أنظار الشرطة التركية… من هنا يبدأ الدفاع عن الأبرياء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن