ثقافة وفن

اقتبس هذا الفيلم من الرواية الشهيرة «الأسود والأزرق» … «كفى».. متى يحين الوقت للنطق بحكم الإعدام على الظلم؟

ديالا غنطوس :

طاقة الإنسان على الاحتمال عظيمة جداً، لكنها تصل في نهاية المطاف إلى مكان حيث يطفح الكيل، ولا تعود للإنسان أي قدرة على تحمل المزيد من الألم، فيخرج عن صمته ليقول كفى في وجه العالم بأجمعه، ويثور على واقعه الذي عايشه وتجرع بؤسه لأعوام لا تنتهي، ليتحول من خاضع.. مستكين، إلى كتلة من الإرادة والجبروت، لا تمنعه كل الحدود والقوانين عن قول كلمته… كفى!!
منذ أيام كنت أتابع فيلماً للممثلة البارعة جينيفر لوبيز، تحت عنوان (كفى – Enough)، وكان العنوان كفيلا بجذبي لمعايشة حلقات من الألم والصمت لامرأة تتكرر باستمرار في مجتمعنا، من دون أن تقوى على قول كلمتها في وجه رجل تجرد من كل صفات الرجولة، ليتحول إلى كتلة من خيانة وقسوة ونذالة، ببزّة أنيقة وابتسامة رقيقة.

اقتبس هذا الفيلم الذي أخرجه المبدع مايكل أبتيد وأطلقه عام 2002 من الرواية الشهيرة «الأسود والأزرق Black and Blue) التي حققت أعلى نسبة مبيعات لصحيفة نيويورك تايمز عام 1998 وهي للكاتبة الأميركية آنا كويندلن، وشارك في بطولة الفيلم النجم الوسيم بيلي كامبيل إلى جانب جينيفر لوبيز، التي أدت دور الفتاة الشابة «سليم» التي تعمل منذ فترة طويلة مع صديقتها المقربة جيني «جولييت لويس» نادلة في المطعم الذي يملكه ويديره صديقهما فيل «كريستوفر ماير»، وكان عملهما لا يكاد يغطي نفقاتهما المعيشية، إلى أن أتى اليوم الذي التقت فيه سليم في المطعم الذي تعمل به رجل الأعمال الفاحش الثراء ميتش هيلر الذي اعتاد الحصول على كل ما يريد في الحياة عن طريق أساليب الاحتيال والدهاء، تقع عينه على سليم، وبخدعة ماكرة انطلت عليها بمساعدة صديقه روبي استطاع الإيقاع بها وإسقاطها في شباكه ومن ثم يصل لمبتغاه في الزواج منها، تمُر خمس سنوات بسرعة يعيشانها بسعادة ووفاق أنجبت خلالها سليم طفلة جميلة اسمها جرايسي، وتنتقل العائلة السعيدة للعيش في منزل فخم في ضاحية راقية وهادئة، إلى أن جاءت تلك اللحظة التي انقلبت فيها حياة الأسرة رأساً على عقب حين اكتشفت سليم عن طريق المصادفة خيانة زوجها لها وبشكل متكرر، وعند مواجهته بالأمر وإصرارها على الطلاق بان وجهه الآخر، ودأب على تعنيفها وإيذائها بشكل متواصل مستغلاً ضعفها كامرأة لا تقوى على صدّه، وعلى الرغم من شكواها لوالدته وتوجهها إلى الشرطة وإبلاغهم بأفعاله واستشارة أكبر المحامين إلا أن نفوذه وأمواله كانا كفيلين بإخراجه من كل الاتهامات والمشاكل، فلم تجد سليم حينها أي أمل سوى الهروب منه مع ابنتها من دون مال أو عمل إلى وجهة غير معلومة، لكن ميتش عبر اتصالاته يتمكن من إيجادها ومعاقبتها بالضرب المبرح، إلى أن تتمكن من الفرار مرة أخرى مع ابنتها التي أخفتها عند صديقتها ولجأت إلى والدها الذي لم يكن يعرفها أو يعترف بها يوماً، وتجهز نفسها بمساعدة من أبيها لمواجهة زوجها ميتش والانتقام منه بأسلوبه نفسه الذي يفهمه وهو القتال، حين اكتشفت أن الطريقة الوحيدة للنجاة من هذا الزواج لن تكون إلا بقتله، بعد أن بلغ صبرها مداه.
وأستذكر هنا فيلماً آخر يروي قصة مشابهة من حيث ما تحمله في طياتها من معاناة شديدة وصبر على ما لا يطاق، وهو فيلم «اتركها للسماء Leave Her to Heaven» الذي أخرجه جون ستال وكان من بطولة النجمين كورنيل وايلد وجين تيرني حيث أديا دور ريتشارد وإلين اللذين يلتقيان في رحلة على متن قطار وتنشأ بينهما علاقة غرام يتوجانها بالزواج، لكن بمرور الأيام واستمرار حياتهما الزوجية المبنية على الحب تتحول إلين إلى امرأة غيور للغاية وتستحيل مشاعرها تجاهه إلى حب امتلاك مشابه للحب الهوسي الذي كان بداخلها لأبيها المتوفى الذي أخذ مكانه زوجها ريتشارد، فتتجه لمحاصرته لعدم رغبتها بأن يعير ريتشارد اهتمامه لأي شيء أو أي أحد آخر سواها، فتلجأ إلى خطط عنيفة ودموية لمواجهة أي شخص يلفت ويشتت انتباه زوجها لاعتقادها أنه قد يسلبه منها، ومن المؤكد أن كل من يشاهد الفيلم سيشعر بالبغض تجاه شخصية إلين، إلا أنها في الوقت ذاته تثير مشاعر الأسف تجاهها، حين يتضح أنها تعاني فعلياً الشعور بانعدام الأمان والطمأنينة في داخلها بالتوازي مع إحساسها بالوحدة، ما يدفعها للسعي لاكتساب محبة الناس المحيطين بها ومودتهم وإثارة اهتمامهم وهذا ما أوصلها لاستبدال والدها الذي كانت تفرط في حبه بريتشارد، وهو ما أدى بها أيضاً لاعتبار ريتشارد ملكاً لها وحدها مع يقينها أن أي شخص يدخل حياتهما ستضعه حُكماً في خانة العدو المهدِّد لعلاقتهما، وانطبق هذا الأمر على داني شقيق ريتشارد على الرغم من أنه شاب مراهق ويعاني إعاقة جسدية إلا أن قسوتها دفعتها لإغراقه أثناء عطلة كان يقضيها في منزلهما، والشيء ذاته مع شقيقتها، حتى إنها باتت تغار من أعماله الكتابية التي يؤلفها، وتطور معها الأمر إلى إقدامها على الإجهاض لعدم رغبتها في إنجاب أطفال منه بسبب اعتقادها مسبقاً أن أي طفل سيأخذ حيزاً مهماً من اهتمامه بها، تفقد إلين أي قدر من السيطرة على عواطفها، وتصبح في النهاية قادرةً على فعل أي شيء يُبعد الجميع عن زوجها، وبعد فوات الأوان يدرك ريتشارد الحد الذي بوسْعِ إلين أن تصل له في سبيل تحقيق ما تريد، وأن الفائز الوحيد في جميع معاركها لن يكون سواها.
ونطالع قصة أخرى يربطها قاسم مشترك مع الفيلمين السابقين ألا وهو العنف والقهر، لكن بصورة مغايرة في الفيلم اليوناني «مس فيولانس Miss Violence» للمخرج ألكساندروس أفراناس الذي نال من خلال فيلمه جوائز عالمية عديدة إبان إطلاقه عام 2013، يبدأ الفيلم بحدث مهيب بمشهد تظهر فيه طفلة تبلغ من العمر أحد عشر عاماً وهي تقدم على الانتحار برمي نفسها من شرفة المنزل لتموت فوراً في يوم عيد ميلادها، نرى تلك الابتسامة الهادئة مرسومة على وجهها وكأنها نالت السكينة التي افتقدتها ودفعتها للخلاص من حياة تعيسة. تباشر الشرطة التحقيق في الملابسات التي أحاطت بالوفاة على الرغم من تأكيد الأهل وإصرارهم على أن ما وقع كان حادثاً لا أكثر، ويتبين لنا أن أفراد الأسرة يقعون تحت سيطرة والدهم بشكل مطلق أي إنه يطبق أقسى درجات التسلط والديكتاتورية والتحكم بأدق تفاصيل الحياة في المنزل، وتتكشف تباعاً أسرار العائلة المفزعة، حيث إن المنزل يعتبر أشبه بسجن بمواصفات محددة يقبع فيه أعضاء العائلة ولا يغادرونه إلا فيما ندَر، فنرى أفراد الأسرة واقعين في حالة إنكار تام للواقع المعيشي المؤلم المزري الذي يكاد يطبق على أنفاسهم وكأنهم مغسولو الدماغ، عدا العمل الكريه الذي أسسه الأب حيث إنه يستغل أبناءه في أعمال البغاء بهدف تحقيق المردود المادي الوفير، لكن أفراد الأسرة يبدون كمن يقعون تحت تأثير المخدر ولا يستطيعون الاستجابة لذلك، وهنا نعرف السبب الذي دفع الطفلة الصغيرة للانتحار حين أنهكت قواها ولم تعُد تمتلك من الجلادة ما يتيح لها القدرة على الاحتمال، ذاك الواقع الذي عاشت تفاصيله الذي يصيب المشاهد بالصدمة والرعب والإزعاج فكيف بحال من يرزحون تحت سلطة هذا الأب ذي المشاعر المتبلدة؟!
واختم بقول للشاعر والروائي الأميركي الشهير ويليام فوكنر «لا تخف أبداً أن ترفع صوتك من أجل الصدق والحقيقة ومن أجل التعاطف ضد الظلم والكذب والطمع، لو فعل كل الناس ذلك.. فسيتغير العالم».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن