ثقافة وفن

الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط من إيزنهاور إلى بوش وأوباما إستراتيجية متصلة لا تتغير

إسماعيل مروة :

تنقسم الدراسات التي تتناول السياسة الأميركية في الشرق الأوسط والعالم إلى قسمين، الأول يتناول السياسة الآنية المتحركة المتغيرة كل يوم، ويقوم بها الإعلاميون المحللون الذين يركضون لاهثين وراء كل تصريح أو قول أو سياسة للاستنتاج، وهذا الصنف تكتظ به مجتمعاتنا، وكل يوم يولد فهيم في قراءة السياسة الأميركية.. الثاني يتناول الخطط والإستراتيجيات التي تحكم السياسة الأميركية، وهذا القسم غالباً ما يكون من الكتاب الغربيين، والأميركيين بوجه خاص، وهم الذين يتتبعون السياسة الأميركية من دون اعتناء بانتخابات وأحزاب، بل باعتناء كبير بدولة المؤسسات الأميركية التي لا تحيد قيد أنملة عن الإستراتيجيات بعيدة المدى المستندة إلى المفكرين ومراكز الأبحاث، سواء كان هذا الحاكم ديمقراطياً أم جمهورياً.. ومن هنا استقبلت بسعادة كتاب الدكتور رياض حداد «الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط» فهو من الكتب القليلة الأكاديمية والعربية التي لا تكتفي بقراءة السياسة، بل تدلف إلى عمق الرؤى الإستراتيجية لهذه السياسة، وتحليل الإستراتيجيات قد يمنحنا فرصة للنظر إلى مستقبل بعيد، قد نتمكن من النهوض والمماشاة والوصول إلى قدر لائق في فهم الإستراتيجيات، وإن عجزنا عن مماشاتها.

من التعريفات إلى الأمن القومي
جاء الكتاب في 341 صفحة من القطع الكبير، وفي ستة فصول، الأول مجموعة تعريفات ومفاهيم ضرورية للغاية قبل الدخول في الكتاب، وتمثل هذه المفاهيم عدة الباحث والقارئ معاً في الدخول إلى الإستراتيجية، ومن غيرها من الصعب الوصول إلى فهم عميق- والثاني زعزعة الأمن الإقليمي، والثالث الأهداف المضللة، والرابع النظام العالمي الجديد والمتغيرات الدولية، والخامس معالم إستراتيجية أميركا المستقبلية في الشرق الأوسط، والسادس الأمن القومي في سياسة أوباما لعام 2010 إضافة إلى مجموعة من الملاحق التي مرت بنا ولم نحتفظ بها ولم ندرسها، وقد يشكل وجودها ملاحق فرصة لإعادة قراءتها، وفهم الإستراتيجية التي لا تقوم على المؤامرة وحدها، ولكنها قد تتعثر بالمؤامرة التي تجدها في طريقها وفي أذهاننا.. ربما عندما نقرأ ما كتبه خبير من أبناء لغتنا نقف عن الانشغال بمن يأتي إلى البيت الأبيض للتهليل له أو شتمه، ونكتفي بما نحن فيه ولا نترقب حزباً جمهورياً أو ديمقراطياً، رئيساً أبيض أو أسود، آسيوياً أو إفريقياً، صديقاً لنا أو خصماً، له أصول إسلامية أو له أصول يهودية.. إن الإستراتيجية وقراءة الرؤى الإستراتيجية تبعدنا عن كل الأوهام الارتجالية التي لم نخرج منها حتى اليوم على صعيد الحكام والجماهير، العامة والنخبة… كلنا في الفهم لم نتوقف عند عمق التخطيط الاستراتيجي، لذلك يتكرر عندنا مسلسل الخيبات، وتتبدل الوجوه والأحزاب عندهم ولا تتغير الإستراتيجية، ونحن لا نملك إلا التصفيق أو الشتم!!

التعريفات والمفاهيم
بدأ المؤلف بتعريفات تضيف الكثير إلى القارئ، فعندما يتم الحديث عن الإستراتيجية نجد فهماً متعدداً بتعدد الأشخاص، فما بالنا من الدارسين؟ استعرض المؤلف مجموعة التعريفات للإستراتيجية، وفي عدد مهم من الدراسات، ليستخلص التعريف الشامل «فن التحكم، والإفادة من موارد الدولة أو من ائتلاف الدول، بما في ذلك القوات المسلحة لتحقيق غاية محددة تتعزز عندها المصالح الحيوية، وتظل في مأمن من الأعداء الحقيقيين أو المحتملين» وهذا التعريف المأخوذ عن إدوين ميد إيرل يظهر مفهوم الإستراتيجية ويشرح لنا الأسباب التي حدت إلى صناعة أحلاف وائتلافات على الصعيد الدولي، ومن ثم يضع المؤلف مجموعة من الحسابات التي يضعها صانعو الإستراتيجية لتحقيق أعلى مستوى لها، وباستخلاص بارع يقول المؤلف «السياسة الدولية محصلة شدّ وجذب للشؤون المحلية، والقادة وليس الأمم هم الذين يصنعون القرارات الخاصة بالسياسات، وإنما يفعلون ذلك بغية تعزيز احتمالات بقائهم في السلطة» وذلك باستخلاص من شيرل شويننغر.
ثم ينطلق إلى الإستراتيجية الأميركية، والإستراتيجية الكبرى والعسكرية والسياسية، ويدخل في عمق قد لا يعرفه الكثيرون، وذلك من خلال دراسات أميركية «الأميركيون ليسوا إستراتيجيين طبيعيين عندما يتعلق الأمر بالشؤون الخارجية، وربما يعود السبب في ذلك إلى الشكل الذي اعتمدوه لحكومتهم.. إن فصل السلطات في صلب الدستور لا يزال يشكل دعوة للصراع حول السياسة الخارجية، ويشكل نقيضاً لأنظمة دمج السلطات مثل تلك المعتمدة في بريطانيا العظمى».
وفي نقل مهم يشير المؤلف إلى الرؤية القومية الأميركية التي تؤثر تأثيراً فعالاً في الرؤية الإستراتيجية الأميركية في الخارج «القومية الأميركية قائمة على قيم سياسية وليس على أساس التفوق العرقي أو الثقافي، ولأن كلاً منها بمقدورها أن تصبح أميركية، فهي جميعاً، أي هذه القوميات، تعتقد أنها قابلة للتطبيق عالمياً، بل مرحب بها خارج بلادها».
هذه التعريفات والمفاهيم ضرورية للغاية في الانطلاق إلى الأسس التي تعتمدها الإستراتيجية الأميركية.

الإستراتيجية والتطور

ترتكز إذاً الإستراتيجية على زعزعة الأمن الإقليمي، ويعود المؤلف إلى مبدأ إيزنهاور الذي وضع قبل عقود، والذي لا يزال متحكماً في هذه الإستراتيجية، ما يدل على أن الإستراتيجية تقوم على فكر مؤسسي لا ينتهي بانتهاء فترة رئاسية، وبداية فترة أخرى، فالرؤية كما يشير المؤلف إستراتيجية بعيدة المدى، ويتم وضع الأسس الآنية التي لا تخرج عن الرؤية، ومن هنا يدخل إلى كتلة الأحداث والحروب التي قادتها واشنطن لتحقيق الإستراتيجية بعيدة المدى «الديمقراطيات، هجمات 11 أيلول، الشرق الأوسط الجديد، النفط، العراق، القرن الأميركي الجديد».
وأكثر ما لفت انتباه القارئ في هذا الكتاب المعمق قراءته في عهد أوباما وذلك نظراً لاختلاف الرؤى بين من يراه عهداً هزيلاً أو قوياً، وما عرضه الكتاب يبين أن أوباما كان حلقة في سلسلة الرؤية الإستراتيجية، فخطابه الذي هلل له العرب والمسلمون في جامعة القاهرة، قدم المؤلف قراءة له وبين سطوره، ليظهر أن هذا الخطاب هو بداية عاصفة الربيع العربي، ولعلّ ما وصل إليه المؤلف بأن سياسة أوباما هي امتداد لسياسة بوش ولو بمظهر مختلف هي من الصوابية بمكان، والذي يؤكد عمق القراءة أن ما مرّ من قراءة سياسة أوباما تجاه الشرق الأوسط والتي كثفت في خطابه في جامعة القاهرة أن الوقوف عند هذا الخطاب لم يكن عادياً، لذلك تركه المؤلف كاملاً في الملاحق، بل أردفه بخطاب لنابليون عند احتلال مصر.
إن أهم ما نأخذه في هذا الكتاب المهم أن السياسة الأميركية من الفوضى الخلاقة إلى السياسة الناعمة ظاهرياً لأوباما لم تكن إلا وفق رؤية إستراتيجية تتواصل فيها أساليب تطبيق السياسات الخارجية من دون النظر إلى الأشخاص المتعاقبين.
كتاب «الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط» لمؤلفه د. رياض حداد دراسة جادة موضوعية تبتعد عن الانفعال والإنشاء، لتدخل في عمق القضايا، ولتبرز للقارئ العربي الرؤية الإستراتيجية في سبيل الوصول إلى رؤى مواجهة فهل نفعل؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن