من دفتر الوطن

رسالة من الآخرة

حسن م. يوسف

 

«إذا لم يستطع الإنسان أن يخترع كذبة مقنعة، فأولى به أن يتمسك بالصدق».
تذكرت هذه العبارة الحصيفة التي تنسب للمستشارة الألمانية أنجيلا ميريكل، وأنا أقرأ رسالة دراماتيكية نشرتها وكالة الأناضول التي يفترض بها أن تكون الأكثر رصانة في تركيا لأن عمرها بعمر الدولة التي أسسها كمال أتاتورك.
تروي الوكالة، نقلاً عن ناشطين، نص رسالة وداعية «وجدت في جيب أحد اللاجئين السوريين الذين انتشلت جثثهم بعد غرق مركبهم الذي كان يحوي المئات من المهاجرين غير الشرعيين في البحر الأبيض المتوسط خلال رحلتهم للوصول إلى الشواطئ الأوروبية».
لم تقدم الوكالة أي معلومات عن هوية اللاجئ كاتب الرسالة، لكنها أفادت أن صاحبها قد كتبها « لدى استشعاره بقرب غرق المركب الذي كان يحمله»! لا شك أن حجم الرسالة لا يتسق مع هذه الرواية فهي تتكون من 251 كلمة، أي نحو نصف حجم هذه الزاوية.
في البداية يعتذر كاتب الرسالة من أمه: «كما تعلمين كل أحلامي كانت بحجم علبة دواء للكولون لك، وثمن تصليح أسنانك»، ثم يودع حبيبته، وشقيقه الطالب الجامعي وأخته التي تحلم بهاتف حديث يحوي «واي فاي»، وبعد ذلك يعتذر من الغواصين والباحثين عن المفقودين، ويطمئن دائرة اللجوء بأنه لن يكون حملاً ثقيلاً عليها، ولا يفوته أن يشكر البحر الذي استقبله من دون فيزا ولا جواز سفر، كما يشكر الأسماك التي ستتقاسم لحمه من دون أن تسأله عن دينه ولا انتمائه السياسي. وفي الختام يشكر قنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موته لمدة خمس دقائق كل ساعة طوال يومين، كما يشكر من سيحزنون عليه وعلى رفاقه عندما يسمعون بالخبر.
تقول وكالة أنباء الأناضول إن هذه الرسالة، التي تنطوي على دسائس وشتائم سياسية، قد عثر عليها في جيب جثة لاجئ سوري غرق في المتوسط، وأنا لن أسأل تلك الوكالة لماذا لم يتأثر حبر الرسالة وورقها بالماء! كما لن أشكك بقدرة ذلك اللاجئ على كتابة هذا النص الطويل وسفينته تشرف على الغرق! غير أني أتمنى على قارئي العزيز، أن يتوقف معي ملياً عند هذه الجملة التي وردت في مطلع الرسالة:
«أنا آسف يا أمي لأن السفينة غرقت بنا… الخ» غرقت!
معنى هذه العبارة أحد أمرين؛ إما أن الكاتب كان يعلم سلفاً بأن السفينة ستغرق لذا كتب الرسالة وخبأها في جيبه لتعثر عليها وكالة أنباء الأناضول. وإما أنه كتب تلك الرسالة من العالم الآخر، وكلف أحد الملائكة بدسها في جيبه بعد غرقه!
أعلم أن بعض الجهابذة سيزعمون أنني بكلامي هذا أسخر من مآسي أخوتي السوريين الذين يطلبون النجاة لأنفسهم بمحاولة الهجرة إلى أوروبا، ورداً على هؤلاء أعلن سلفاً أن مصائب أخوتي المهاجرين تمسني رغم موقفي الرافض للهجرة.
إن غرضي من هذه الزاوية هو تسليط الضوء على الظروف المأساوية للهجرة اللاشرعية، التي تقضم حياة العديد من المواطنين السوريين كل عام، لكنني لا أنكر رغبتي في السخرية من وكالة أنباء الأناضول التي تعاملت مع مأساة المهاجرين الإنسانية الحساسة بشكل دعائي رخيص لخدمة مرامي حكومتها!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن