قضايا وآراء

الثابت والمتحول في جنيف1 وفيينا2

عبد المنعم علي عيسى :

المسافة بين جنيف1 (30/6/2012) وفيينا2 (14/11/2015) هي كالمسافة بين الكواكب التي تقاس عادة بالسنوات الضوئية (حيث السنة الضوئية تعادل 10232 سنة عادية) والأمر هنا ليس من باب المبالغة في رسم المشهد فالوقائع تقول ذلك ثمّ إن محاولات رسم الصورة التي كانت ستنتج عن كل منهما تقول ذلك أيضاً.
اليوم بات من الممكن القول إن وثيقة (جنيف1) كانت وثيقة وصاية سياسية مكتملة التوصيف على الدولة السورية، إلا أن آثار تلك الوصاية هي من النوع الذي لا يتراءى للناظر إلا بعد تمكنه من متابعة الأثر التراكمي للتداعيات التي ستنتج عنها، ولا يمكن أن تظهر على الملأ إلا بمرور الوقت الكافي لإنضاج البنى والهياكل التي ستفضي إليها، فأنت عندما تستطيع أن توصل إلى سدة الحكم في بلد ما تسعى إلى السيطرة عليه شرائح مرتبطة بك إيديولوجياً واقتصادياً وبالتالي سياسياً عندها تكون قد أقمت وصايتك عليه من دون أن تكون هناك حاجة لإصدار قرار من الأمم المتحدة أو من عصبة الأمم على اعتبار أن هذه الأخيرة هي التي كانت تمنح صكوك الانتداب للدول الاستعمارية على بلداننا فيما لم تستطع الأولى (الأمم المتحدة) وراثتها في ذلك لاعتبارات كانت تتعلق بطبيعة المتغيرات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية والتي كانت منها انتهاء صلاحية الاستعمار العسكري المباشر ولكن إلى حين كما سيتبين فيما بعد.
في المرحلة التي سبقت جنيف1 وتزامنت معه ومن ثم تلك التي تلته كانت خريطة القوى السياسية التي يحضرها الغرب لكي تكون بديلاً للنظام القائم في دمشق ترسم صورة واضحة عن الطريقة التي سيتم عبرها فرض الوصاية على دمشق لفترة تطول أو تقصر تبعاً لتطورات بعضها يكون محسوباً وبعضها الآخر لا يمكن أن يكون خاضعاً لحسابات في عالم مليء بالمتغيرات والمفاجآت وتسجل روزنامته حتى الآن مقتل اثني عشر شخصاً أثناء محاولاتهم التقاط صورة «سيلفي» يريدون بها إمتاع ناظرهم ولغاية تكمن فقط في نفس القائم بالفعل.
لا يمكن هناك تصوير جغرافيا المعارضة السورية إلا باستعراض أهم النقاط الجيوديزيه فيها ولا مجال إلا بذكر بعض الرموز مع وضع توصيف صغير يختصر دورها وفي ذلك نرى أحمد مونيان الجربا الذائع الصيت في عالم المخدرات وبعلاقته مع آل سعود ونرى نذير الحكيم رجل المخابرات الفرنسية والحامل للجنسية الفرنسية أيضاً وهو عراب فيلق الشام أحمد رمضان (ومعه عكامه عبيدة نحاس) وكلاهما حاصل على الجنسية البريطانية ثم فداء مجذوب المتورط مع المخابرات الاسترالية (بالمناسبة هو من كان يسمي أيام الجمع في بدايات الأزمة السورية)، مصطفى صباغ الذي تحول من رجل سيراميك إلى رجل سياسة للضرورات السعودية فقط وكان على خطاه غسان هيتو القادم من ولاية تكساس الأميركية، أنس العبده الحامل للجنسية البريطانية صاحب قناة بردى التي تضج بالفكر القومي والعروبي تشاركه في ذلك (وربما بأكثر من ذلك) السيدة سهير الأتاسي التي لم تجد شيئاً تتميز أو تشتهر به أكثر من قضية اللقاحات الفاسدة لأطفال دير الزور أيلول 2014، السلسلة تطول وتطول إلا أن الرابط بين عناصرها هو الغرق في محيطات الفساد الغربي لإحكام لجمهم والسيطرة على جموحهم أنى ومتى أريد ذلك.
ولربما لم تكن مصادفة أن يفتضح أمر تلك المناخات بعد زوال مفاعيلها على الأرض عبر ما جاء على لسان الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكارديستان (1974-1981) عندما قال في 27 أيلول 2015 «أتساءل عن إمكانية إنشاء انتداب من الأمم المتحدة على سورية مدته خمس سنوات».
يزداد التصريح أهمية وإثارة إذا ما عرفنا أن الرئيس ديستان هو قريب (ربما ابن أخ) لفرانسوا جورج بيكو الذي مثل الطرف الفرنسي في اتفاقات سايكس بيكو عام 1916.
أنتج مؤتمر فيينا1 (13/10/2015) مناخات كان من الممكن أن تكون أكثر إيجابية لولا كل ذلك السعار الذي ظهر عليه عادل الجبير والذي أدى بالضرورة إلى إنتاج أجواء مشحونة وهو أمر لوحده كان كافياً لأن يفرض مساراً سياسياً محدداً هو الذي خيّم على أجواء فيينا2 ولربما كان المنعكس الأهم لكل ذلك التوتر هو ما جاء في البيان الصادر عن فيينا2 والذي حددت فيه مراحل زمنية لإنجاز التسوية السياسية في سورية.
يشكل التحديد الزمني عاملاً ضاغطاً بشكل سلبي على أي مفاوضات ومن أي نوع كانت ولا يمكن له أن يكون ذا أثر إيجابي مهما تكن الظروف التي أدت للذهاب إليه وكثيراً ما أثبتت التجارب أن هذا الأمر (التحديد الزمني) كان السبب في انفراط عقد الكثير من المفاوضات التي كانت تقوم بين أطراف متصارعة داخلية كانت أم خارجية.
والمثال الأقرب عليها كان في التجربة السودانية التي شكل مؤتمر الدوحة فيها عاملاً ضاغطاً بتحديداته الزمنية قبيل أن يتم انفصال الجنوب السوداني عن الأم في تموز من العام 2011.
على الرغم من كل ذلك فإن وثيقة فيينا2 هي إيجابية لجهة كونها وثيقة للخروج من الوصاية مع الانتباه إلى احتوائها على العديد من الألغام التي تهدد بالتفجير مرات ومرات فوصفة الحكومة الوطنية الموسعة التي يجب أن تحتوي على جميع الأطياف هي وصفة تفجيرية بامتياز صحيح أن البلدان تذهب في حالات الخطر المحدق (ونحن في أتونه الآن) إلى تشكيل حكومات وحدة وطنية إلا أن هذه الأخيرة تكون تحت سقف الثوابت الوطنية ولا تعلو فوقها، فما هو حكم تلك الأطياف التي احتوتها المعارضة السورية والتي عملت على الاستقواء بتل أبيب على الداخل الوطني فيما كانت شاشات التلفزة الإسرائيلية تعرض زياراتهم تلك والطلبات التي يطلبونها ممن يلتقون به والأخطر هنا أن أياً من فصائل المعارضة الأخرى لم يقم بإدانة ذلك الأمر وإنما كان الجميع أقرب إلى «تفهمه» منه إلى رفضه، يدرك الغرب وهو العارف بمبدأ عمليات الطفو السياسي وكيفية حدوثها أن الإصرار على إسقاط ديمقراطيته إلينا بمظلة من صنعه أيضاً ما هو إلا وصفة تفجيرية لمجتمعاتنا تطول الجذور هذه المرة، فالقاعدة التي تحكم نجاح العملية الديمقراطية في أي مجتمع من المجتمعات هي أنها مرهونة بنضج طبقات المجتمع إلى الدرجة التي يصبح فيها من الضروري الاحتكام إلى القوانين الموضوعة من مؤسساته الوطنية، والسؤال أين درجة النضج المطلوبة لتلك الوصفة هل هي في شرائح الفكر السلفي الجهادي المستشري كما النار في الهشيم؟ أم في شرائح الإسلام السياسي حتى المسمى معتدل منه والذي يرى أن الديمقراطية هي أمر محرم شرعاً ولا مجال للبت فيه.
مرة أخرى لماذا يصر الغرب على إلباسنا لبوسه الديمقراطي؟
الإصرار الغربي على تسويق الديمقراطية التي يريدها في مجتمعاتنا ناجم عن رؤيا لديه مفادها أن عملية ترك الأمور على عواهنها في تلك المجتمعات هو أمر سيدفع لأن تحمل صناديق اقتراعها إلى السلطة شرائح ستكون مرتبطة عضوياً به (بالغرب) وبمعنى آخر فإن أي انتخابات تجري وسط كل هذا الدمار وكل تلك الفوضى لن تنتج (بحسب رؤيا الغرب) إلا طبقات سلطوية مرتبطة نسيجياً به على اعتبار أن الاقتصاد القائم في تلك البلدان هو في أغلبيته اقتصاد كولونيالي (تابع) وأي بنية سياسية ما هي إلا انعكاس لحقائق اقتصادية واجتماعية معينة، على حين أن المسار الذي يجب أن تدفع إليه –في حال صدقت النيات هو أن تسبق عملية إجراء الانتخابات القيام بتغييرات اقتصادية واجتماعية جذرية تعطي للأغلبية وزنها الحقيقي كما تعطي لباقي الشرائح وزنها الذي تستحقه بالتأكيد لم يكن كل ذلك في بال فيينا2 على اعتبار أن النار الآن هي داخل البيت والأفضل إطفاؤها أولاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن