ثقافة وفن

بين الشعار والممارسة!

م. غسان كامل ونوس :

لا يكاد يُختلف على أن الافتراق بين الشعار والممارسة، أو بين المبادئ والتطبيق، واحد من أهم الأسباب التي تشعل الأزمات في المجتمع؛ تشوّه القيم، تشوّش المعايير، وتضيّع الجهات، وتبدّد الإمكانات، وتسوّس المؤسّسات، وتمهّد الممرّات الشرعية، وتُشرِع الفتحات غير الشرعية، وتفتح الأنفاق والأخاديد لاختراقات الأعداء المتربّصين، والخصوم المتلمّظين، وتترك حفراً وتكهّفات، تمتلئ بالعفن والصديد والسوائل الآسنة، التي يمكن أن تُغرق الميادين والساحات والتجمّعات بالجراثيم والطفيليات والكائنات المدمّرة؛ كما يمكن أن تُحبط عزائم المقاومين عن الحواضر، وتُعثِر الخطا المتقدّمة لصدّ الغزوات، التي يمكن أن تأتي من أي صوب، حتّى من جهة القلب!
ومن نافل القول أن نذكّر، أن ذلك لا يتوقف على جهة ولا على جبهة من دون أخرى، ولا يقتصر على محور أو جانب أو مسار من دون آخر؛ واستطراداً نؤكّد أن الأمر لا يتعلّق بالأحزاب وحدها، لكنها تتحمّل وِزراً كبيراً في بلد يحكمه حزب، أو ائتلاف أحزاب، أو يسمح بأن تتشكّل فيه أحزاب، وأن تقوم بحراك منظور؛ لأن الأحزاب حالٌ بين التقديس الذي تقول به الأديان، التي لا يختارها المرء عادة، ولا يستطيع التفلّتَ منها، وبين الالتزام الإنسانيّ غير المُختار أيضاً بالقوانين الوضعيّة، التي تحتاج إلى قوى فاعلة لتغييرها. ولهذا تحقّق الأحزاب نظريّاً القيمة الذاتية والرضا النفسي بالاختيار، وتؤمّن القوّة الجمعيّة التي يفتقدها المرء في سعيه منفرداً إلى التغيير المطلوب، وتحقيق الأهداف المنشودة.
لكنّ الأحزاب التي تنطلق من مبادئ مقدّرة، وتُطلق شعارات مرغوبة، لا تمضي دائماً– أو عموماً- في خطو منتظم ومسيرة مضبوطة؛ لأن رَكْبَها غالباً ما يتعرّض لتطوّرات وتباينات وافتراقات؛ فالذين يبدؤون السير بها وفيها مغامرين أو مضحّين، سيتساقطون على الطريق في مواجهات ومفاصل، حتّى يحقّق الحزب الحضور الاجتماعي والسياسي، فتبدأ مناكفات الظهور، ومنافسات المنتصرين على الصدارة والكراسي؛ فيتبدّى الافتراق والانشقاق، وهو مُمكنٌ هنا؛ لأنه اختيار شخصيّ أيضاً، ويمكن أن يتفرّع الحزب الواحد أحزاباً، بعد أن يأخذ كلٌّ جماعتَهُ ومناصريه، إلى حيّز آخر، لا يكاد يختلف بالمبادئ والنظريّات والأفكار والشعارات والرموز، حتّى لكأنّه يتبع من يقوده، وهو رهن قراءاته للوقائع والأحداث، وقراراته بشأنها، وحتّى نزواته! وهو بالتالي حوّل التعاملَ معه في حزبه أو فرعه أو تيّاره– أو تحوّل من دون أن يعترض- إلى ما يشبه التقديس، وتُركت الشعارات مرفوعة في الهواء، والرايات الغاصّة بالعبارات والحماسات والولاءات معلّقة في رياح الفصول، ويبقى التغنّي بالتاريخ النضاليّ المجيد والأقوال المأثورة لمناضلين سابقين، وورثة حاضرين! ويكاد هذا الأمر ينطبق على أغلبية الأحزاب غير الدينيّة، تلك التي تتحوّل مع الوقت، على الرغم من علمانيّتها الظاهرة في البداية، ومع التقديس المعاصِر -المكتسب- إلى أحزاب شبه دينيّة!
ومن الطبيعيّ، حين يسود الحزب، ويظهر على الساحة، ويستلم قدراً من السلطة، أو السلطة كلّها، أن يميل إليه الناس، للحصول على امتيازات ومكتسبات، يفتقدها من هم خارجه، من دون أي اهتمام بشعاراته، أو بنضالاته، ونظريّاته التي يُفترض أن تتطوّر في ظلّ الوقائع الجديدة. لكنّ كلّ هذا يُنتَسى أو يُتَغافَل عنه، أو يضيع في هوس حماية المكتسبات الحزبيّة والشخصيّة وتنميتها، وحمّى التدافع للدخول الفوضويّ في البستان الذي سيتعفّر؛ لأن هناك من يجني ويكسّر الأغصان، ويعبث بالنباتات الأخرى، ويهمل استزراعها؛ ويهجره أبناؤه وزرّاعه، الذين لم يبق لهم دور أو حضور أو تأثير، ولا من يَسمع، ويصبح أمر استهدافه يسيراً، وتغدو استباحته ميسّرة!!
لا يتوقّف مثل هذا على حزب قوميّ، كان له حضور بعلمانيّته ومنطلقاته النظريّة، وشعبيّة جاءت من أهدافه وانطلاقته المظفّرة، فصار قائداً في الدولة والمجتمع؛ ولأنّه صار كذلك، دخله من هبّ وما دبّ!! وقد سبقته إلى جدليّة الحضور والذبول أحزاب عريقة أخرى أمميّة وقوميّة، مع ما تعرّض له كلّ منها من ضربات وهزّات؛ فيما بقيت أحزاب دينيّة قديمة وأخرى معاصرة، أقوى وأمتن، على الرغم من الضغوطات والاهتزازات، وتستطيع الاستمرار أكثر؛ لأنّها تعتمد على المقدّسات، وتحاسِبُ بها وعليها! وبالتالي تفتقد الخاصّة التي تميّز الأحزاب عادة: الخيارات الذاتيّة أو التطوّر الطبيعي؛ لكنّها، على الرغم من كلّ ذلك، ليست في منأى عن تغيير في الأداء والممارسة، ما يتناسب مع الأهداف السياسيّة التي تعمل من أجلها؛ فهي غيّرت في أولويّاتها، واتّجهت لضرب سورية أو مصر بدلاً من الكيان الصهيوني، وتعمل الأحزاب الدينيّة المشابهة الأخرى في بلدان أخرى بأجندات مشابهة!
وقد اُستخدمت- واستحدثت- الفتاوى بدلاً من الشرائع، والأحكام التي يقول بها الشيوخ، بدلاً من المنظّرين والمفكّرين؛ مثل هذا الأمر لا يعني القنوط والخيبة والسكوت؛ بل لا بدّ من إعادة الثقة بالأفكار التي اُعتمدت وثَبُتَ أمانُها، والتفكير الجديّ بالشعارات المرفوعة وجدواها، وإمكانية قبولها ومناسبتها. ولا بأس؛ بل لا بدّ من حضور أحزاب بدلاً من حزب واحد، لكن ليس على طريقة: لكلّ نافذٍ حزب! ولا شكّ في أن للحزب الذي يمتلك مقوّمات وأسساً وتاريخاً، إمكانية العودة بثقة، شريطة أن يُعيد الحيويّة إلى صفوفه، والحوار إلى أفكاره، والمرونة والسلاسة في مفاصله، والقدرة على الإقناع في طروحاته، مع أهمية الالتزام والانضباط في كوادره، والكفاءة في قياداته!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن