قضايا وآراء

بين تساؤلات الأوروبيين وأجوبة الأسد: تعالوا نرسم معاً خطوطنا الحمراء

فرنسا – فراس عزيز ديب :

عندما يزور أي وفدٍ صحفي فرنسي سورية لإجراء مقابلةٍ مع الرئيس الأسد، فإن الكثير من الاستفسارات التي يتلقونها عند عودتهم تتركز حول آلية اللقاء، من قبيل:
هل الأسئلة يتم طرحها على الرئيس الأسد بأريحيةٍ، أم إن هناك أسئلة جاهزة لا يجب تجاوزها، أو إن هناك أسئلة ما يرفض الأسد الإجابة عنها. بالتأكيد أن من يطرح هذه الاستفسارات بشكلٍ عام (قرَّاء أو شخصيات اعتبارية) معذورون، لأنهم متأثرون لسنواتٍ بالبروباغندا الموجهة لمعظم الإعلام الفرنسي وتحديداً الرسمي، الذي لا يعدو كونه صورةً عما تريده قناتا «آل ثاني» و«آل سعود» الإخباريتان.
لكن، كل من يلتقي الرئيس الأسد يعترف بأنه يطرح الأسئلة عليه بشفافيةٍ، ربما تكون مفاجئةً حتى له، نظراً للصورة السابقة المكوَّنة لديه. انطلاقاً من هذه المقاربة، ربما علينا كسوريين أن نستثمر تساؤلاتٍ كهذه، لكن بصورةٍ معاكسةٍ، ونسأل الصحفيين الفرنسيين الذين زاروا سورية مؤخراً:
هل هناك من زودكم ببعض الأسئلة.. فحملتموها معكم إلى دمشق؟
في الحديث الأخير للرئيس الأسد مع مجلة «فالور اكتويل» الفرنسية، بدا واضحاً إصرار الصحفيين على أمرين أساسيين: الأول هو علاقة القيادة السورية بالقيادة الفرنسية وإمكانية فتح أي نوعٍ من التعاون السياسي والاستخباراتي بينهما، والثاني وهو الأهم، إصرارهم على سماع جوابٍ واف من الرئيس الأسد لتساؤلٍ شائكٍ؛ هل فرنسا ستفشل في مكافحة الإرهاب إذا ما استمرت بعلاقاتها مع مشيخة قطر ومملكة «آل سعود»؟
في الواقع كلا السؤالين يظهر وكأنه انعكاسٌ تام لاحتدام النقاش «الشعبي» و«الرسمي» هنا في فرنسا، تحديداً بعد الاستفاقة التدريجية من صدمة العمليات الإرهابية التي ضربت باريس، والذي يتمحور حول نقطتين أساسيتين: لماذا رفضنا التعاون مع القيادة السورية حتى الآن ما دام هذا الأمر من الممكن أن يساهم في حماية الشعب الفرنسي، والأمر الثاني، هل فعلياً بتنا بحاجةٍ لمراجعة العلاقات مع الحلفاء والأعداء، بمن فيهم الروس؟
في الإطار العام -وهذا الكلام قلناه سابقاً- إن أغلبية الشعب الفرنسي «سلبيٌ» من الناحية السياسية. بمعنى آخر، لا يكترث إطلاقاً عند أي انتخابات بما يقدمه هذا المرشح من برنامج في إطار السياسة الخارجية، كل ما يكترث له يتعلق بالشأن الداخلي.
اليوم ما يقلق الطبقة السياسية التقليدية في فرنسا أن هذا الأمر بدأ يتبدل، فالخطر بدأ يداهم الفرنسيين حتى في أماكن ترفيههم، لذلك فإن طرحَ مثل هذه التساؤلات في الشارع الفرنسي هو أمرٌ عليهم أخذه بجديّةٍ، لا أن يهربوا منه بطمأنة الفرنسيين بما سيتم من إجراءات على المستوى الداخلي، فلا التعديلات الدستورية ستجدي نفعاً، ولا المزيد من تقييد الحريات سيحل المشكلة، ولا القضاء على بضعة إرهابيين سينهي الإرهاب، لأن الإرهاب بالنهاية «فكرةٌ» لها جناحان تحلق حالياً خارج نطاق الحدود التقليدية، ألم نحذرهم في السابق على سبيل المثال من خطورة إصرار إعلامهم على استخدام مصطلح «الدولة الإسلامية» بدل داعش؟
إن عدم الاعتراف بفشل السياسة الخارجية هو جزءٌ لا يتجزأ من الهروب نحو الأمام، تحديداً أن المشكلة ليست بحجم العملية التي ضربت فرنسا والخوف الذي انتشر في أوروبا، لكن هناك وضوحٌ في التخبط وضعف المعلومات. ربما لن يمر الكلام حول اللائحة التي قدمتها القيادة السورية بأسماء بعض الإرهابيين وتجاهل الفرنسيين لها بذريعة «رفض التعاون مع الأسد» مرور الكرام، تحديداً أن هذا الكلام يتماهى مع فرضية (التخبط والضياع)، فالمغربية «حسناء بلحسن» التي هناك إجماع من دائرتها المقربة أنها لا يمكن أن تكون قد تحولت خلال أسابيع للفكر الجهادي، ربما لم يكن لها علاقة بما جرى، تحديداً أن «الجهاديين» في هذه الحالات يفاخرون بما يقومون به، كما كان يفعل «الأخوان كواتشي» خلال اتصالاتهما مع وسائل الإعلام الفرنسية قبل مقتلهما، أما ما يُحكى الآن، فإن المذكورة كانت تؤكد خلال أحاديثها الهاتفية مع الشرطة خلال حصار الشقة أن «الباعود» ليس صديقها، وأن لا علاقة لها بما يجري. فهل التخبط سيعني المزيد من قتل الأبرياء و«المتهمين»، أم إن هناك أبواب تعاون ستُفتح لغربلة ما يمكن غربلته من الذين دخلوا أوروبا كلاجئين أو خلايا نائمة لها اتصالاتها مع قيادات داعش والقاعدة، وغيرها؟ وهل هناك من هو جاهز لدفع ثمن سياسي لتعاون أمني كهذا؟
لعل من أهم ارتدادات ما جرى في باريس، هو ارتفاع التنسيق (الفرنسي الروسي)، فكلاهما الآن بات رسمياً ضحايا لداعش ومن يدعمها ويدعم أخواتها، ربما الأمر تعدى قضية التعامل مع المدمرة «شارل ديغول» كصديقٍ، أو التعاون خلال القصف الفرنسي لمقرات داعش في الرقة. هذا الأمر لا يبدو أنه سيقف عند هذا الحد، حتى لو سميناه تحالف الضرورة، تحديداً أن الفرنسيين فهموا جيداً أن الروس لا يلعبون في سورية، وأن ما يتم استقدامه من قطعِ عسكريةٍ بصنوفها كافة لا يهدف فقط إلى تحرير سورية من الإرهاب بأشكاله وتشكيلاته كافة، لكن يتعداه ليصل نحو إعادة رسم «الخنادق الجيوسياسية» التي تشكل خط الدفاع الأول عن أوروبا بالكامل أمام تمدد الخطر الإرهابي، فالروس متسلحون الآن بفشل الناتو عبر سياسة التمدد في أوروبا من حماية رعايا دوله من الإرهاب. من جهةٍ ثانية فإن الأميركي حتى الآن لا يزال «شبه صامت»، فهو من ناحيةٍ لم يرسل قطعاً عسكرية لتفرض مع الروس واقع الندِّ بالند، أما طائرات حلفائه في الحرب على داعش فهي ملتهيةٌ بقصف المدنيين في اليمن، حتى حليفه الأوثق أردوغان لم يستطع حتى الآن أن يأخذ منه موافقةً على المناطق العازلة، فهل هناك نقطة تلاق (روسية أوروبية) بصمتٍ أميركي ستترسخ مستقبلاً من خلال دعم العملية العسكرية لضرب داعش من جهةٍ، وتسهيل الحل السياسي في سورية من جهةٍ أخرى، عندها ماذا عن المعترضين؟ وكيف سيتم إرضاؤهم؟
في الحديث عن الحل السياسي في سورية علينا الانطلاق من تكرار أوباما لعبارة أن «لا إمكانية للحل بوجود الأسد»، في الوقت ذاته علينا أن نتذكر أن المهلة التي أعطتها مقررات بيان «فيينا 2» لإجراء الانتخابات في سورية كانت «18 شهراً»، هذا يعني أن انتهاء المدة ستعني منطقياً بقاء الرئيس الأسد، ورحيل أوباما الحتمي الذي تبقى لولايته الثانية أقل من ذلك. بالتأكيد فإن المرشّحين القادمين سيأخذان بالحسبان فرضية الحوار السياسي الذي يجري في سورية، بعيداً عن الغرق في أوحال الأوهام ورفع السقوف، إلا إن كان هناك قرار من أحد المرشحين بالمواجهة الكاملة مع الروس على الأرض السورية، وهذا يبدو مستحيلاً.
أما موافقة حلفاء سورية على فكرة توكيل «آل سعود» بمهمة تشكيل الوفد المعارض الذي سيفاوض وفد الحكومة، فهو كمن ضرب عدة عصافير بحجرٍ واحدٍ: الأول هو منح «آل سعود» مركزاً شكلياً كراعٍ لهذه المعارضة. الثاني هو إغراق «آل سعود» في هذه المتاهة التي لا يبدو أن لها نهايةً مع وجود مئات الشخصيات والفصائل المعارضة التي لا يبدو أن لها تمثيلاً على الأرض، تحديداً أن أغلب المعارضة الممثلة على الأرض هي معارضةٌ إرهابية بتوافقٍ حتى من حلفاء «آل سعود» على ذلك. أما الثالث، فهو بالنهاية أسلوب «تصغيرٍ» واحتقارٍ لهذه المعارضة، بل نكاد نجزم أن أعداء القيادة السورية قدموا لها خدمةً جليةً من خلال هذا التوكيل ستظهر نتائجه تباعاً، تحديداً من خلال ردة الفعل في الداخل السوري على وفدٍ تم تشكيله في مملكة «آل سعود»، وحظوظه بنسب الفوز في أي انتخاباتٍ برلمانيةٍ قادمةٍ.
ختاماً، وخلال حديثه أمام مجلسي الشيوخ والنواب قال فرانسوا أولاند: (إن الأسد لا يمثل مستقبل سورية، لكن عدونا الآن هو داعش)؛ عبارةٌ انهزاميةٌ ربما لن يطول الزمن حتى يتم ترجمتها على أرض الواقع، فماذا الآن عن الحرب على الإرهاب، أو كما يجمّلها من يدعم العصابات الإرهابية بالقول: الحرب على داعش؟
من الصعب حالياً قيام الأميركي والتركي بالتخلي عن ورقة داعش والنصرة بهذه السهولة، إلا إن تابعنا على مبدأ «إذا ما كبرت ما بتصغر». إن إعلان الرئيس بوتين أن العمليات الجارية في سورية لا تكفي، هو بالنهاية تمهيدٌ لعملٍ قادم أهم، وهو إرسال المزيد من القوات البرية -هذا إن لم يكن بوتين أساساً قد ناقش هذا الأمر مع الرئيس الأسد خلال زيارته موسكو-.
يدرك الأتراك أنهم وحدهم لن يستطيعوا منع أي شيء، فالعمليات العسكرية الآن في ريف اللاذقية تسير بالقرب من حدودهم، وأن استنكاراتهم لما يسمونها «قصف قرى تركمانية» في الشمال السوري هو بالنهاية مسرحيةٌ لا طائل منها، تحديداً أن هذه القرى سوريّة، ثم لماذا صمتوا عندما هاجمت عصابات البرزاني مدينة «طوز خورماتو» العراقية؟ فهل الإستراتيجية القادمة ستعتمد مع داعمي الإرهاب على فرضية اللجم أم الاحتواء؟ ربما كلاهما معاً.
مع كل إرهابي يُقتل في سورية فإنك بطريقةٍ ما تساهم بلجم العدو، كذلك الأمر فإن كل توقيعٍ على اتفاق اقتصادي أو سياسي، سواء عبر إيران أو الروس مع الأميركي أو التركي، هي عملية احتواءٍ. أما القطري والسعودي فلا يبدوان بشكلٍ من الأشكال بحاجةٍ لعملية احتواءٍ، تحديداً أنهما لا يملكان حدوداً مشتركة كما التركي، فالقضاء على الإرهاب يعني ضمنياً القضاء على ذراعهم الطولى في سورية. الجميع بات الآن يتطلع لهذا الاحتواء، لأن العين باتت على معركة إعادة الإعمار؟
من هنا سنعود للقاء الأسد مع الصحيفة الفرنسية ونتذكر أن الصحفي سأل الأسد حول التعاون مع فرنسا إذا تغيرت الحكومة الفرنسية، فهل باتت الشركات الفرنسية الكبرى -كما غيرها- تضغط قبل فوات الأوان لنيل حصةٍ ما من إعادة الإعمار؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن