قضايا وآراء

سورية وأوكرانيا: عندما يكذّب الغرب.. ويخادع!

| د. بسام أبو عبد الله

هناك عبارة شهيرة للمنظر الأميركي والمستشار السابق للأمن القومي في عهد جيمي كارتر، زبيجنيو بريجنسكي، يقول فيها: «إن روسيا الاتحادية من دون أوكرانيا لا تشكل إمبراطورية أوراسية»، وما نراه اليوم من هستيريا غربية في قضية أوكرانيا لا يرتبط بخيارات الشعوب ولا سيادتها، فالأمر ببساطة لعبة جيوسياسية كبيرة، هدفها منع روسيا الاتحادية من أن تعود لدورها العالمي وتطويقها بجدار يتبع لحلف الناتو أي لواشنطن.

من يريد أن يعرف أكثر ما عليه سوى فتح الخرائط ليرى ما الذي يحدث بالضبط، ففي جوار البحر الأسود تقدم الأطلسي نحو بلغاريا ورومانيا، وضمهما إلى الحلف، إضافة لوجود تركيا أساساً كجزء من الأطلسي، أي بمعنى فإنه حتى بعودة جزيرة القرم لروسيا باعتبارها منفذها الوحيد على البحر الأسود ستواجه موسكو لاحقاً جواراً أطلسياً في البحر الأسود، أما في الشمال الغربي للقارة الأوروبية تقدم الغرب في احتواء روسيا استراتيجياً ليضم دول البلطيق السوفييتية الثلاث: استونيا ولاتفيا وليتوانيا، إضافة لبولندا، من هنا نرى أن حائط الأطلسي العازل أصبح ممتداً من استونيا على البلطيق إلى تركيا، ولم يتبق لروسيا الاتحادية سوى مخرجين عملياً من التطويق المحكم لها يتمثل بحدودها الغربية أي روسيا البيضاء، وأوكرانيا.

إن هذه النظرة الدقيقة للخريطة تجعلنا نفهم أكثر ما يجري الآن، فالرئيس فلاديمير بوتين ومنذ عام 2008 ما بعد أحداث جورجيا، أراد القول للغرب إنه لا يمكن ضم أوكرانيا للأطلسي أو للاتحاد الأوروبي، ولابد من جعلها دولة عازلة، محايدة لأن أوكرانيا تعتبر من المصالح الحساسة والأساسية للأمن القومي الروسي التي لا يمكن التسامح بشأنها أبداً.

في 28-29 تشرين الثاني عام 2013 عقدت قمة في مدينة فيلنوس بمناسبة مرور عشر سنوات على قمة عام 2004 التي تقرر فيها قبول عضوية عشر دول أوروبية شرقية في الاتحاد الأوروبي، وآنذاك أعلن الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، الذي أسقط لاحقاً ثم وصل للسلطة في انتخابات شباط 2010، أن كييف ستنتظر ظروفاً أفضل لتوقيع اتفاق الشراكة لتكون أكثر تلبية للمصالح الأوكرانية، وفي القمة طالب الأوروبيين بتقديم تعهدات مالية كبيرة لتعويض الخسائر التي سيفقدها من جراء الضغوط الروسية، وقال: يمكن توقيع اتفاق الشراكة إذا عوض الاتحاد الأوروبي خسائر أوكرانيا، لكن الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند قال: «لا يمكن أن ندفع كي تدخل أوكرانيا في هذه الشراكة، لا لن ندفع».

في 17 كانون الأول 2013 دعا الرئيس بوتين نظيره الأوكراني إلى الكرملين وأعلمه استعداد موسكو لاستثمار 15 مليار دولار في سندات حكومية أوكرانية، وتخفيض سعر الغاز المصدر بمقدار الثلث، من دون أي شروط أخرى، وآنذاك وصف يانوكوفيتش هذا اللقاء بالاستراتيجي وخاصة أن موسكو قدمت بديلاً مناسباً لامتناع الأوروبيين عن تعويض كييف، ولم تُستفذ المعارضة الأوكرانية للغرب بطلب انضمام أوكرانيا للاتحاد الجمركي مع روسيا.

اتضح للأوروبيين أن موسكو تعارض بشدة انضمام كييف لاتفاق الشراكة، الأمر الذي دفع واشنطن وحلفاءها لتأجيج التظاهرات نهاية 2013، وبداية 2014 والتي اعتبرت الأضخم منذ اندلاع ما سمي بالثورة البرتقالية عام 2004، وكان الأوروبيون وقحين في دعمهم لهذه الاحتجاجات، إذ شاركت فيها الرئيس الدوري للاتحاد الأوروبي آنذاك، وحضرت خصيصاً من الولايات المتحدة فيكتوريا نولاند التي كانت آنذاك مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا وأوراسيا لدعم المتطرفين الأوكرانيين، حيث قدمت لهم الحلوى، وشاركها النائب جون ماكين، ثم يقولون لك إنها إرادة الشعب الأوكراني، فهل هناك وقاحة أكثر من ذلك؟ مع الإشارة هنا إلى أن نولاند نفسها اعترفت بـ22 نيسان 2014 في مقابلة مع الـ«سي إن إن» أن واشنطن أنفقت نحو خمسة مليارات دولار لدعم ما سمته «الديمقراطية» منذ عام 1991، أي تفكك الاتحاد السوفييتي، ثم يقولون لك إنهم أبرياء، وتلك إرادة الشعوب!

في 16 كانون الثاني 2014 ازدادت التظاهرات ضد الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش لاسيما في غرب أوكرانيا حيث تنتشر الاتجاهات القومية اليمينية المعادية لروسيا، والداعمة لانضمام كييف للاتحاد الأوروبي، وقابل ذلك في آذار 2014 احتجاجات حاشدة مؤيدة لروسيا في جنوب شرق أوكرانيا حيث تتحدث الأغلبية باللغة الروسية، والحقيقة أن الأحداث تطورت بسرعة كبيرة، لم تكن تتوقعها موسكو، بالرغم من الدعم المالي الكبير، الذي قدمته موسكو لـكييف إثر زيارة يانوكوفيتش لها.

كان واضحاً أن هناك مخططاً غربياً أميركياً للإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش بالرغم من قبوله باتفاق التسوية مع ممثلي المعارضة بوساطة بروكسل، في شباط 2014 حضر وفد أوروبي من ألمانيا وفرنسا وبولندا، وأنجز تسوية تقوم على مسار دستوري قانوني لانتقال السلطة، وإنهاء فترة رئاسة يانوكوفيتش، وإجراء انتخابات رئاسية في كانون الأول 2014، وإقرار الدستور الجديد.

لكن الأمور على أرض الواقع سارت باتجاه يخالف هذا الاتفاق، إذ لم يلتزم الغرب به، والرئيس يانوكوفيتش كان جباناً، وفرّ للأراضي الروسية، ما أدى لسقوط حكمه، واستيلاء مؤيدي واشنطن على السلطة.

على الرغم من أن موسكو قبلت على مضض اتفاق التسوية وأكدت على تنفيذه، لكن الغرب كذب، وخادع، ولم يلتزم بكل تعهداته، فالعمل في غرف الدبلوماسية كان يتناقض تماماً مع ما خططوا له على الأرض.

الآن في ظل هذه الهستيريا التي تقودها وسائل الإعلام الغربية، وتصريحات مسؤوليها، وتهديدات بايدن، لابد أن نفهم خلفية الأمور تماماً سواء ما يتعلق بكيفية تطور مسار المسألة الأوكرانية، ومطالب كل طرف من الأطراف من جانب، والجانب الآخر المهم علاقة ما يجري في أوكرانيا بـسورية، وهنا دعوني أركز على النقاط التالية:

إن أوكرانيا مع بلاروسيا هي الجزء الأخير المتبقي أمام روسيا قبل محاصرتها أطلسياً بشكل كامل.

إن شبه جزيرة القرم أكثر من مهمة بالنسبة لروسيا، وأمنها القومي كمنفذ وحيد على البحر الأسود.

سورية هنا مهمة للغاية لأنها موطئ القدم الوحيد لروسيا في المياه الدافئة على المتوسط، وصلة الوصل بين البحرين الأسود والمتوسط من خلال القرم وطرطوس.

إن الربط بين الملفين مهمة للغاية لفهم حقيقة اللعبة الجيوسياسية، التي نحن جزء منها لا بل جزء أساسي واستراتيجي.

يجب أن نلاحظ أن التصعيد في أوكرانيا تم عام 2014 حيث كانت الضغوط تزداد على موسكو لتغيير موقفها من الحرب على سورية، ومساومتها بين الملفين، وهو ما يؤكد المعلومات التي تحدثت عن رفض بوتين أي مساومة على الإطلاق، وظهر ذلك بالدخول الروسي لدعم الدولة السورية في مكافحة الإرهاب عام 2015.

الفرق بين أوكرانيا وسورية أن أوكرانيا لم تحظَ برئيس قائد، ففرّ رئيسها عند أول امتحان، بينما حظيت سورية بقائد صلب دافع عن بلده وشعبه، وتحمل ضغوطاً هائلة لم تجعله يتراجع في مواقفه، وهو مكسب كبير لروسيا وسورية، لأنه لو حدث في سورية السيناريو الأوكراني لكان هناك كارثة حقيقية على مستوى المنطقة والعالم.

النقطة الأخيرة: أن كل جولات التفاوض مع الغرب من جنيف 1، إلى جنيف 2، إلى فيينا، إلى المسارات الأخرى، لا يمكن الوثوق بها، فتجربة أوكرانيا أظهرت أن الغرب يخادع ويكذب، وأن مسارات الدبلوماسية مطلوبة، ولكن الأساس الجمع بين القوة والمرونة، وهو ما يعمل عليه بوتين، والرئيس بشار الأسد في هذه المعركة الجيوسياسية الكبرى.

من يعتقد أن إرضاء الغرب سيحل مشكلته فهو واهم ومشتبه، والتنازل مرة واحدة سيؤدي إلى سلسلة طويلة لن تنتهي، ويجب ألا نخدع بمعسول كلام الغربيين عن الديمقراطية والإنسانية، إذ لا يعقل أن تكون واشنطن إنسانية على السوريين وهي تحاصرهم وتسرق نفطهم وقمحهم.

من يعتقد أن الحياد ممكن في هذه الحرب فعليه أن ينظف نظارته، ويعيد قراءة التاريخ، وينظر بإمعان إلى الخريطة.

علينا فهم اللعبة الكبرى كي ندرك مكاننا، ودورنا، وكيفية بناء مستقبلنا… القضية ليست بهذه البساطة فالغرب لا يهمه شكل النظام السياسي، ولا دستور البلاد، ولا حقوق الإنسان، الغرب يهمه أن تكون تابعاً، وخادماً لهم، وتجربة يانوكوفيتش ماثلة أمامنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن