قضايا وآراء

في مسارات فيينا

عبد المنعم علي عيسى :

جدلية العلاقة بين ما هو إقليمي وما هو دولي هي التي تحكم مسار الأزمات في أي منطقة جغرافية من العالم، وبشكل عام فقد شكل على الدوام التردد الدولي في حسم خياراته تجاه أزمة ما، ولأمر ما، فرصة سانحة للقوى الإقليمية لكي تعبث بهمة ونشاط على الأرض الملتهبة أصلاً، يدفعها إلى ذلك إدراكها بأن استمرار الحال هكذا لن يدوم ولسوف تأتي اللحظة السياسية التي ينبغي فيها لكل ذاك العبث أن يقف، وهي (اللحظة لا تتأتي إلا وقت يحسم الدولي خياراته معلناً بأن «اللعبة قد انتهت».
لربما يحق لنا – نحن السوريون- أن نشعر بكمّ ضئيل من التفاؤل ما بعد فيينا 14/11/2015 وهو نابع من العديد من النقاط وفي الذروة منها إرساؤه لقاعدة تقوم على التأسيس للقاءات دورية (ومنتظمة إن أمكن) فيما بين القوى الفاعلة في الأزمة السورية بغض النظر عن تناقض المصالح فيما بينها وهو أمر بحد ذاته كفيل للقول: إن تقدماً كبيراً قد حصل بالتقاء المتناقضات من شأنه أن يحد من انكسارات حادة تستدعيها لغة الوسطاء في التواصل فيما بينها على حين أن تقابل الوجوه يعطي لهذا الأخير روحية كان يفتقدها بالتأكيد فيما سبق.
يؤكد كل هذا الشعار السعودي (التركي – القطري) المرئي والمسموع بأن المخاوف في عواصم ذلك الثالوث قد ضربت أطنابها، والخشية هنا ناجمة عن إمكان أن يصبح لقاء فيينا «الصخرة» التي يبني السوريون وطنهم عليها وفي كل الأحوال فإن من يسوسون تلك العواصم يرون أن مسار فيينا ماضٍ في اتجاه عكس ما تريده مراكبهم، ولكن ما السبيل إلى غير ذلك؟ فأجهزة الرصد تؤكد أن سرعة هبوب الرياح هي بما لا يتناسب مع مقاومة الأشرعة السعودية المهترئة بعدما علق بها كل ذاك الزبد القذر في الوقت الذي عجزت فيه مصلحة الموانئ السعودية من التخلص من ذلك الزبد والذي بات أثقل من أن يحمل.
تنوقلت فيما بعد فيينا تسريبات عديدة كان الأهم منها هو تقرير نسب إلى غرف صناعة القرارات الأوروبية وفيه رصد للحالات غير المعلنة على الرغم من أن السياق العام للأحداث يشي بها إنما كتحليل تنقصه الأدلة اللازمة لإثبات صحته، وقبيل الدخول ما بين ثنايا الحروف والسطور من المهم أن نذكّر بالمناخ العام الذي انعقد لقاء فيينا في خضمه وفي أتونه أيضاً فقد ظهر تنظيم الدولة الإسلامية بشكل تأكد فيه للرائي بأنه يعيش حالة انقلاب جذرية ناجمة عن تغير كبير في الرؤى والاستراتيجيات التي كان يتبناها التنظيم منذ نشوئه في العام 2003 على يد أبي مصعب الزرقاوي إلى ما قبل أشهر قليلة ولربما قبيل شهر واحد فقط، وفي خلالها لم يذهب «داعش» نحو استهداف المصالح الغربية بعيداً عن الجغرافيا التي يخوض معاركه عليها حيث سيشكل هذا النهج الأخير الفارق الأكبر مع التنظيم الأم (القاعدة) التي كان يرى منظورها بضرورة استهداف الغرب في عقر داره، ولربما تتضح أكثر –عبر هذا النهج- دوافع الغرب نحو احتواء التنظيم وليس تدميره ولربما يفسّر هذا الأمر حروب الألعاب النارية التي تخوضها واشنطن ضده منذ أيلول 2014 إلى الآن.
ما جرى بين أواخر تشرين الأول ومنتصف تشرين الثاني كان يشي بانقلاب كبير في تلك الاستراتيجيا فخلال خمسة عشر يوماً فقط قام التنظيم بإسقاط الطائرة الروسية فوق شرم الشيخ 31/10/2015 ثم بتفجيرات برج البراجنة في بيروت 12/11/2015 وأخيراً تفجيرات ساحة سان دوني الباريسية 13/11/2015 حيث ستصبح هذه الأخيرة الشمّاعة التي سيعلق عليها الغرب جميع خطواته اللاحقة كما يبدو.
يقول التقرير الأوروبي إن حلاً للأزمة السورية قد جرى التوافق حوله في فيينا مؤخراً وهو يقوم على مرحلتين اثنتين: الأولى تستمر حتى آذار المقبل وفيها من المقدّر على الأرجح أن تتضح أكثر فأكثر معالم التحالف الدولي ضد الإرهاب كخيار يتزامن مع تغيير داعش لاستراتيجياته، فيما تستغرق الثانية من سنة إلى سنتين تبعاً لمجريات الأحداث على الأرض السورية وفيها من المقرر أن يذهب الغرب (وروسيا) إلى إنضاج الحل الشامل للأزمة السورية، ويرى (التقرير) أيضاً أن دينمو فيينا قد أقلع فيما من الواضح أن دورانه آخذ في التعاظم جراء حالة توافق غربي روسي وبشكل أدق فإن الرتمين الأميركي والروسي قد باتا يعملان على موجة واحدة وتردد واحد وبتنسيقٍ عالٍ جداً كما يصفه التقرير الأوروبي وهو ما تؤكده حالة الإشادة التي كان قد أدلى بها الرئيس الأميركي 18/11/2015 حيال الدور الروسي في سورية في سابقة ذات دلالات تتعدى المجاملة السياسية التي ترمي لتخفيف التوتر، وهو ما يفسّر اللحظة السياسية القائمة في الغرب حالياً إذ إن هذا الأخير –كما يبدو- قد استطاع أن يبتلع شوكة ضمّ القرم 18 آذار 2014، كما استطاع التأقلم مع المستجدات في أوكرانيا وهو ما يعني أن شلالاً من الـ«ICE» قد وقع على نار كان قد اصطلى لهيبها منذ شباط 2014 أي بعد انفجار الأزمة الأوكرانية.
شيئاً فشيئاً تضيق الخيارات المتاحة أمام باريس ولربما ترى هذه الأخيرة فيما بعد تفجيرات سان دوني أنها هي –ولا أحد غيرها- المسؤولة عن إقصاء نفسها عن المسارات الرامية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية عبر تبنيها لسياسات خارجية هي أبعد ما تكون عن البراغماتية، فالعلاقة الفرنسية مع دمشق لا يجب أن تمر بالرياض أو بالدوحة وأنقرة تحت أي ظرف كان بل على العكس فإن علاقة باريس مع العواصم الثلاث الأخيرة هي التي يجب أن تمر عبر دمشق، ولذا فإن باريس اليوم أمام منعطف في سياساتها تجاه دمشق ولا أهمية هنا لتلك التصريحات التي أطلقتها الخارجية الفرنسية في أعقاب تفجيرات سان دوني والتي جاء فيها «إن الموقف الفرنسي من الرئيس الأسد لم يتغير إلا أن عدونا الأول في سورية هو داعش إذ لطالما أن الانعطافات السياسية لا يمكن لها أن تأخذ شكل الانهدامات الجرفية التي تحدث فجأة من دون سابق إنذار إنما تحدث على شكل هبوط تدريجي حذر يترك لنفسه فيما بين الدرجات التي يهبط عليها استراحة قصيرة ينظر فيها إلى أعلى ثم إلى أسفل ومن ثم التروي في المسير.
يرى الأوروبيون وفي الأمر ما يدعو إليه أن العقبة الكبرى التي يمكن لها أن تعترض مسارات فيينا قد تنجم عن عمليات التأخير المقصودة التي يتعرض لها تطبيق الاتفاق النووي الإيراني الذي دخل إلى حيز التنفيذ الفعلي في 18 تشرين الأول 2015، هذا التأخير يشير إلى حالة صراع قائمة فيما بين التيارات السياسية الحاكمة سواء أكان في الداخل الإيراني أم في الحكومات الغربية وفيها (في حالة الصراع) يرى المتشددون (داخل كل من الاثنين) بأن لهم مصلحة في عرقلة تطبيق ذلك الاتفاق بهدف الوصول إلى مقايضات إقليمية نهائية فيما بين طهران والغرب وهو أمر من شأنه أن يؤدي إلى عرقلة الحلول المفترضة لجميع الأزمات في المنطقة على اعتبار أنه يقوم بربط تلك الأزمات في المنطقة على التسلسل بحيث من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تشهد جميع الأزمات لحظات نضج داخلية وخارجية على حد سواء تكون صالحة للسير فيها قاطبة نحو الحلول المنشودة لها.
يضيف الأوروبيون إن المتغير الأكبر الذي شهده الموقف الغربي داخل ردهات فيينا إنما يتمثل بالقبول بتأجيل البحث في استمرار الرئيس الأسد في السلطة بعدما أضحت الرؤية تشير إلى أن هناك الكثير من القضايا التي توجب البحث والتوافق عليها، الأمر الذي يعتبر بمنزلة نزع صاعق التفجير عن الحشوة المتفجرة، هذا إضافة إلى التوافق في الآليات المقترحة لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية التي يجب أن تنطلق من النقاط المتوافق عليها صعوداً نحو النقاط الخلافية (بعكس المسار الذي تريده المعارضة السورية) لحلها واحدة إثر أخرى.
إن كل ما سبق -يخلص الأوروبيون- يوحي بجدية المسار الذي انخرط فيه الغرب مع موسكو لإيجاد حلول مفترضة لأزمة القرن الحادي والعشرين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن