الأولى

واشنطن والمعادلة المستحيلة

بيروت – محمد عبيد :

على الرغم من خطورة اعتداءات «داعش» الإرهابية في العاصمة الفرنسية، لا يبدو أن إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بصدد إجراء تغييرات جذرية في سياساتها تجاه «داعش» وأخواته من التنظيمات الإرهابية، أو حتى تجاوز ما درجت عليه هذه الإدارة لجهة اقتصار مقاربتها في مواجهة هذه التنظيمات على المتابعة الاستخبارية عن بعد.
والبعض هلل وراهن على أن هذه الاعتداءات ستدفع بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى إعادة النظر بتحالفه المصلحي العميق مع النظام السعودي أو إعادة تموضعه على المستوى الدولي بحيث يقترب من الحركة الروسية في المنطقة وخصوصاً في سورية أو حتى التفكير بواقعية أكثر حول ترتيب أولوياته بحيث يضع على رأسها التفرغ لمحاربة «داعش» مع ما يفرضه ذلك من حاجة لاستعادة التنسيق مع أجهزة الاستخبارات السورية لكون جميع المعلومات أفادت بأن اعتداءات باريس خُطِطَ لها في المناطق السورية التي تحتلها «داعش» وبالتالي تأجيل المطالبة بتنحي الرئيس السوري بشار الأسد على الأقل. لكن الواقع أن هولاند اندفع عكسياً أي إلى الداخل محاولاً الاستفادة من هذه الاعتداءات للملمة وضعه ووضع حزبه شعبياً عبر استدرار تعاطف الشعب الفرنسي وإحراج الأحزاب الفرنسية الأخرى لإقرار قوانين طوارىء تمكنه من التحكم بقوة بقرارات السلطة وخصوصاً منها ما يتعلق بالأمن الداخلي والسياسة الخارجية أو المشاركة في عمليات عسكرية خارج البلاد.
كان ومازال واضحاً أن ألم الفرنسيين الناتج عن هذه الاعتداءات لم يُدمِ قلب حلفاء هولاند في الولايات المتحدة الأميركية التي حاولت هي وأتباعها الدوليون والإقليميون توظيف هذه الاعتداءات في اجتماع فيينا الثاني عبر العودة إلى محاولة ابتزاز روسيا وإيران من خلال تكريس معادلة أنه لا يمكن الانتصار على الإرهاب واستجماع الدول كافة حول هذا الموقف قبل الإقرار بضرورة تنحي الرئيس الأسد. وفي المضمون، هي معادلة تعني إقراراً صريحاً من حلف واشنطن بأنه يمسك بحركة الإرهاب ولديه القدرة على إبقائه حياً أو قتله ولكن بعد أن يحقق الأهداف السياسية ويقبض الأثمان التي من أجلها استثمر فيه وعليه، وتعني أيضاً أنه مهما تجرأ تنظيم «داعش» وأخواته من «القاعدة» وغيرها على دول العالم في الغرب أو الشرق ومهما ارتكبوا من جرائم إرهابية ضد الشعوب والإنسانية فإن ذلك لن يغير خِطَطَ هذا الحلف ولن يُعدِل سياساته الملتبسة تجاه هذا الإرهاب أو تلك الداعمة له.
كذلك فإن التركيز الحاد والمتجدد من قبل حلف واشنطن على شخص الرئيس الأسد ليس سوى محاولة لاستباق نجاح الحلف المواجه له (سورية، روسيا، إيران، حزب الله) بتغيير قواعد الاشتباك عبر تحقيق نقلة نوعية في إدارة الحرب سياسياً وعسكرياً ومعنوياً لمصلحته وتوسيع دائرة سيطرته الميدانية المفصلية وما يمكن أن يعكسه ذلك كله من تبديل في موازين القوى على طاولة اجتماعات التسويات المُفترضة في فيينا وغيرها، وهو ما يظهر أنه غير متوافر حالياً على الأقل في ظل إسراع النظام السعودي إلى تجميع ما يسميهم أطراف «المعارضة» السياسية والعسكرية لوضعهم على الطرف المقابل للدولة السورية حول طاولة المفاوضات الموعودة-المستحيلة. وهو أيضاً، أي التركيز، محاولة وقائية متأخرة لدرء ارتداد «داعش» على الدول المُشغلة والداعمة والراعية له بعدما ضاقت به الأرض في سورية والعراق إذ بلغ حده الأقصى في قدرته على التمدد الجغرافي والاستثمار النفطي والاقتصادي عامة ووجد أن تنفيذ اعتداءات إرهابية خارجية كتفجير الطائرة الروسية أو الأحياء في الضاحية الجنوبية لبيروت أو أماكن عامة في باريس هو أقل كلفة بشرياً قياساً بالأعداد الكبيرة من مقاتليه التي بدأ يفقدها، إضافة إلى أنها باتت الوسيلة الوحيدة للفت أنظار العالم إلى أن المساومة على رأسه والتخلص منه ليسا أمراً يمكن تحقيقه بسهولة ومن دون تكلفة دموية عالية.
أخطأت إدارة أوباما حين اعتقدت أنه يمكنها الاستفادة من موجة ما سُمي «الربيع العربي» للانقضاض على سورية، وأخطأت حين تركت أذرعها في المنطقة (السعودية وتركيا وقطر) ينجبون وحشاً ويطلقونه للاقتصاص من أخصامها وأعدائها، وتخطىء اليوم حين تعتقد أن الإصرار على معادلة «رأس داعش مقابل رحيل الأسد» يوفر لها نصراً، لكن مجرد بقاء الأسد يعني خسارتها للحرب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن