ثقافة وفن

«سفر المسافر» لرنا سفكوني … واقعية صادمة وقراءة غير ذاتية

إسماعيل مروة :

العنوان فيه عودة للفظ قلّما يستعمل هو السفر بكسر السين، وأضيف إليه لفظ المسافر، فما عساه يقول هذا العنوان؟ وماذا تريد رنا سفكوني في سفرها هذا الذي لم تقم بتصنيفه أو بتأريخه، فهي ترى أن كل ذلك شيء غير مهم، وقد ألقيت الكتاب جانباً إلى أن أغراني ذات صباح أن أمدّ يدي لأبدأ قراءته، ومن الإهداء (إلى نملة) إلى المقدمة، إلى آخر قطعة في الكتاب (إلى نملة) وجدت نسقاً من الكتابة الممتعة التي تقترب من مفهوم الكشكول العربي الذي لا يغادر فكرة، ولا يستثني شاهداً، ولا يحاول أن يأخذ طريقة واحدة في الكتابة! تنتهي من قراءة مقدمته لتتابع من دون توقف في قراءة صفحاته، وعندما تنتهي تصل حد المتعة بالمحتوى ورشاقة الأسلوب، ولكنك تعجز عن تصنيفه!
الكاتبة تتوجه في مقدمتها، ومن دون أي حذلقة أو سابق إصرار، ولا تدّعي أن الكتاب مهم، ولا تدعي أنه يقدم شيئاً، وتترك للقارئ حرية أن يقرأ أو لا يقرأ، وحرية اختيار زمن ومكان القراءة، وتساعده في اختيارها حسب وضعه، لأنها حسب زعمها لا تقدم كتابة تحتاج إلى طقوس، ولكنها في الوقت نفسه تتسلل لتوحي للقارئ بأن الكتاب والقارئ متحدان، ولا تغيب المفارقة عن كل الخيارات، هذه المفارقة التي تصل حد الفجيعة، والتي أزعم أنها قدمت رنا سفكوني كاتبة ساخرة متفوقة، وذات أسلوب خاص لا يقترب من الوعظ خطوة، ويجمع بين الوجدان والمعرفة.
«تستطيع قراءته وأنت على ظهر شاحنة، أو في ازدحام السرافيس، أو مضجع إلى رخامة قبر أحدهم.. أو حين تعلق يدك بمقبض باص البلدية، وجسدك يرقص مهتزاً أثناء الرحلة.. تستطيع قراءته قبل الصلاة وبعدها، أثناء طعامك، في فترة استحمامك، مع الصمت والضجيج، في زمنك الضائع أثناء انتظار دورك لدفع فواتير الماء والكهرباء والإنترنت والهواء.
أي كتاب هذا الذي يقرأ في كل هذه الأوقات، وفي أوقات أخرى ذكرتها الكاتبة في المقدمة ولا يتسع المجال لذكرها، لتنتهي الكاتبة في مقدمتها إلى التوحّد بين الكاتب والقارئ «لتكون شريكي في العطش، شريكي في جفاف الحلق، وشريكي في البحث عن بئر أو نبعة أو ساقية.
أكتب لك يا صديقي القارئ لأننا صدفة ماء، أفلا يجوز لنا في سفر المسافر أن نكون شركاء؟».
«سفر المسافر» وزوادته سواء أكان مقيماً في أي ركن من أركان الوطن، أو كان مهاجراً إلى الخارج، إن كان متصالحاً أو غاضباً، إن كان قادراً واضحاً أو متلبساً.
«أن تقبض على هذا العالم فهذا يعني أنك تراه مجرماً، وأنك أضفت إلى نفسك صفة شرطي تعس بائس خائف من هذا العالم.
أما أن تركله
فهذا يعني أنك كورت كل مخاوفك حتى صار العالم على هيئة كرة أرضية تتحرك بإشارة من قدمك تلك متعة تستطيع ممارستها في وقت فراغك.
الفراغ الذي لا تملك سواه».
في الحالين، في كل الحالات ترى رنا سفكوني أن الفراغ هو حياتنا وسياستنا، وأننا نقضي وقتنا في الفراغ لنقبض أو لنركل، لا لنكون جزءاً من هذا العالم لنبذل جهداً في الاندماج فيه! وهذه رؤية عميقة في واقع الحال يصعب على الكاتب الذي لا يملك روحاً ساخرة أن يجدها.
وما من عبث اختارت المؤلفة نملة لغلافها، وإهداء لنملة، وختمت بالنملة مقالة تبين أسباب اختيارها للنملة.
وما ختمت به سفرها للمسافر الذي هو هي، وهو أنا، وهو أنت، وهو كل عازم على حركة وسكون إلا من الأدلة على وعي بضرورة الحياة والمقاومة باستشعار الحياة وما فيها، وهو أقل ما يمكن أن يقوم به المرء، وهو أكثر جدوى من القبض على العالم أو ركله:
«قرأت لنملتي كامل الأوراق، وأسمعتها نشرة الأخبار ونشرة الطقس، ونشرة الدواء، وغنيت لها أغنية فيروز: أنت وأنا عم يسألوني كيف.. منضل شو بيحلالنا نغني.. رقصنا ضحكنا أكلنا لعبنا حفرنا طمرنا سوية، حتى كسرنا الوحشة بقرون استشعار للحياة».
سفر المسافر كتاب لطيف فيه الكثير من التأمل والقراءة للحياة وما يجري بها على الأرض، وما حالة التطابق بين النملة والكاتب والقارئ إلا من باب الرغبة بإيجاد وسائل التواصل مع الحياة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن