ثقافة وفن

من ظرفاء دمشق.. حسني تللو ونقطة الزيت … تللو لخالد العظم: لا أملك في خزانتي جوربين من اللون نفسه!

أنس تللو :

اشتهر في العشرينيات من القرن الماضي وحتى الستينيات منه مجلسٌ كان يدار في دار ظريف دمشق الأول فخري البارودي في محلة القنوات… وهو مجلس الظرفاء، واشتهر في هذا المجلس رجال ظرفاء عديدون، على رأسهم فخري البارودي يتبعه التلميذ الأول له والصديق البار الوفي حسني تللو، الذي كان الظريف الثاني في دمشق بعد البارودي.
حسني تللو الذي كان سيداً بارزاً من سادة مجالس النكتة، وأميراً متميزاً من أمراء الظرف وخفة الروح، كان رجلاً مكور الجسم، محمر الوجه، دائم الابتسامة حتى في المآتم… يملك لغة فريدة في عالم الظرافة، إذ يستخدم ألفاظاً منمقة، وكان بارعاً جداً في إظهار الإيحاءات الكثيرة المرافقة للطرفة التي يرويها، وذلك من خلال وجهه وعينيه الجاحظتين، وحاجبيه وخديه، وكل تقاطيع وجهه… وقد اشتهر بخفة دمه وسرعة البديهة لديه، فإذا ما تحدث بدأ القصة الطرفة بصوت هادئ رصين، ومهما كان ما يرويه مضحكاً فإنه لا يبتسم ابتسامة واحدة…
وكان رواد المجلس يتحلقون حول الطاولة التي يجلس على طرفيها كل من فخري البارودي وحسني تللو متقابلَين… ينتظر كل منهما الآخر حتى يبدأ بالكلام العادي فيحوله الثاني إلى نكتة ظريفة فيرد هذا بنكتة مثلها، ذلك أن تللو قد عُرف بمداعباته ومشاكساته ومجادلاته لأستاذه وصديقه الحميم فخري البارودي، ويتخلل ذلك بعض التعليقات الظريفة التي يطلقها الظرفاء المتابعون الذين كلما سمعوا كلمة من فخري البارودي يلتفتون جميعاً إلى تللو ليستمعوا إلى ما سيرد عليه من تعليقات ظريفة، حتى إذا ما أدلى تللو بدلوه يرد عليه البارودي… ولا يزال الناس يلتفتون يمنة ويسرة بين البارودي وتللو حتى تمضي الساعات الطوال دون أن يشعروا بالوقت.
وذات يوم وفي أحد المجالس التي أقيمت في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، جاءت ذبابة إلى وجه فخري البارودي، وصارت تدور حوله، وحاول البارودي أن يتخلص منها فلم يتمكن، إذ كلما أبعدها بيده عادت إلى وجهه بإلحاح أكبر، ثم بعد أن أصابه الضيق تركت وجهه ووقفت على أذنه، فثار وغضب ثم صاح:
ـــ يا ناس… يا عالم… ذبابة في عزّ الشتاء والبرد؟
نظر الناس إليه، ثم التفتوا إلى تللو ليتابعوا ماذا سيقول… فحملق به تللو ملياً، وقال بعد صمت طويل:
ـــ ليش مستغرب فخري بك، يمكن تكون لابسة كنزة صوف.

حسني تللو ونقطة الزيت
روى لي المرحوم الدكتور عدنان حسني تللو الرحالة العربي أنه قد حضر مرة مجلساً من مجالس الظرفاء في دار فخري البارودي، فقال:
في إحدى المرات دخل الناس إلى مجلس الظرفاء في دار البارودي فوجدوا المجلس على غير عادته جامداً صامتاً، ذلك أن حسني تللو الرجل الذي دوماً يشعل نار الضحك في البيت قد توقف عن الإثارة، وظهرت عليه علامات الحزن الشديد، فقد أطبق فمه ونظر إلى الأرض وخيم الوجوم على وجهه، وفشلت كل المساعي لإعادته إلى مرحه السابق، والسبب أنه كان يتباهى بربطة العنق الجديدة التي أهداه إياها رئيس الوزراء خالد بك العظم، ثم وقعت عليها نقطة زيت فشكلت عليها بقعة تحولت إلى ما يسمى بالعامية (فشَّاية) فكانت هذه الفشاية سبباً في تعكير صفو الجلسة كلها، لأن حسني تللو ما فتئ ينظر في كل ثانية إلى تلك الفشاية بحزن وانزعاج، وفجأة قرر أحد الجالسين أن يحل المشكلة بطريقة لا تخطر على بال أحد، وهو المرحوم حسني عابدين ؛ وهو رجل مشهود له بالظرافة وخفة الظل، فقام وسار نحو حسني يتقدم بكل تؤدة وحذر وهو يخفي مقصاً وراء ظهره، ووسط ذهول جميع الناظرين إليه أمسك ربطة العنق التي يلبسها حسني تللو وأعمل فيها المقص فقطعها بشكل تكون فيه بقعة الزيت خارج القطعة الباقية، ثم رمى بها على الأرض…
هنا ظن الجميع أن الأمر سيتفاقم، وأنه قد تحدث مشادة أو غير ذلك بينهما، لكن على العكس، ذلك أنه من شروط الظرافة أن يتحلى الظريف بروح رياضية كبيرة، اكتسبها من جرعات الضحك الكثيرة، فالظريف يبقى ظريفاً دوماً، لذلك فقد تقبل حسني تللو الأمر بصدر رحب وبهدوء بالغ، فأسرع إلى حسني عابدين يقبل يديه ويعانقه ويشكره، ويقول سلمت يداك، والله أبعدت عني الحزن والهم، وعادت الجلسة إلى الصفاء والضحك والمرح.

حسني تللو والجوارب
كان المرحوم حسني تللو تربطه علاقات مع أصحاب الفكر والقلم ومع الوزراء، لذلك فقد كان يتردد على مجالسهم… ومرة كان يجلس مع السيد خالد بك العظم رئيس الوزراء في فندق (الأوريان بالاس) يتحدث معه حول بعض المستجدات، وقد كان حسني تللو يضع رجلاً فوق رجل، وفجأة رأى خالد بك يقترب منه، ويقول: حسني حسني، اعتدل في جلستك وارخ ساقك، فسأله حسني مستغرباً: لماذا؟ فقال له خالد بك: إن الجوارب التي تلبسها كل واحد بلون، فقال له حسني: وما المانع في ذلك، ولماذا أنت مستغرب؟ فدهش خالد بك من جوابه، وقال له: يا حسني هذا مكان عام تتردد عليه الشخصيات المهمة وأعضاء السلك الدبلوماسي، وهذا لا يتناسب مع ما تعارف عليه الناس في هذا المجال، فأجابه حسني تللو: إذن لماذا أنت تلبس جاكيتاً بلون والبنطال بلون آخر، قال له خالد بك: يا حسني إن المجتمع قد اتفق على هذا، والناس كلهم يرتدون جاكيتاً وبنطالاً بلونين مختلفين، أما حالتك أنت من ارتداء الجوارب بلونين مختلفين فهي حالة نادرة، فقال له حسني: وأنا لي مجتمعي الخاص الذي يوافق على هذا وقد رضيت بما أنا عليه من هذا الأمر، فتركه خالد بك وعاد إلى مجلسه… وأطرق حسني تللو قليلاً وبدا عليه الندم، ثم قام فاقترب من مجلس خالد بك العظم، وقال له: خالد بك، إن ما قلته لك هو تفسيري الشخصي لهذه الحالة التي أنا فيها، لكنني والله ليس عندي في درج الخزانة من الجوارب فردة تماثل أختها…
وحين سمع المرحوم خالد بك العظم هذا الجواب ضحك وضحك حتى غشي من الضحك، وأرسل له في اليوم التالي اثني عشر زوجاً من الجوارب كهدية.
هذا ما حصل في فندق (الأوريان بالاس)… والذي أظنه هو أن حسني تللو لم يتوقف عن هذه العادة، فقد استمر بارتداء الجوارب بلونين، وربما عن غير قصد… دلَّني على ذلك أنني بحكم كوني فرداً من هذه العائلة فقد وصلني عن طريق المرحوم عدنان تللو منذ عشر سنوات زوجٌ من الجوارب الاثني عشر التي أهداها رئيس الوزراء لأبيه، وكانت هذه الزوج كل فردة بلون، ما يدل على أن الأزواج الأخرى تم استعمالها متخالفة في الألوان حتى وصل إلي هذا الزوج متعاكساً.
لكنني احتفظت بهذه الجوارب ولم أستعملها، لأني أعتقد أن عهد الظرافة قد انتهى… أو كاد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن