قضايا وآراء

24/11 كنقطة تحوّل في مسار الأزمة السورية

عبد المنعم علي عيسى :

شيئاً فشيئاً تتتالى الأدلة على أن حادث إسقاط الطائرة الروسية (24/11/2015) كان حادثاً مدبراً، بل مخططاً له منذ وقت لا يهم هنا إن كان طويلاً أم قصيراً، ففي دليل جديد حدث عندما أُسقطت الطائرة قفز ملاحاها (استشهد أوليغ بيشكوف بينما نجا زميله الآخر قسطنطين موراخين) بمظلة النجاة الخاصة بكل منهما، كان تهاوي المظلتين يقع فوق منطقة جغرافية تسمى جبل التركمان وهناك استقبلهما بنيرانه الغزيرة فصيل مسلح يسمى (حركة الذئاب الرمادية) بزعامة الإرهابي (ألب أرسلان جيليك) وهي حركة فاشية سبق أن صُنفت على لوائح الإرهاب الأوروبية في عام 1995 على خلفية العمليات التي قامت بها على امتداد آسيا الوسطى ووصولاً إلى أوروبا الشرقية، إلا أن ذلك لم يمنع واشنطن وأنقرة من القول إن المنطقة التي كانت تستهدفها الطائرتان الروسيتان لا وجود لداعش فيها.
إلا أن السؤال هنا ماذا كان ينتظر أرسلان جيليك هناك في جبل التركمان؟ وهو الذي كان يقاتل في جغرافيا الجبّ الأحمر كما يقول الموقع الخاص بجيش التركمان (تأسس 7 تموز 2015) لم يسبق لدولة من دول الناتو منذ أن تأسس هذا الأخير 1949 أن تجرأت وأقدمت على ما فعلته أنقرة، حيث تشير المعطيات إلى أن الأخيرة قامت بإسقاط الطائرة الروسية بإيعاز وتحريض ناتووي ولم تكن مصادفة أن يعلن أردوغان 23/11/2015 أي قبل يوم واحد من إسقاط الطائرة بأنه يحذر روسيا من مغبة «الاعتداءات» التي تنتهك عبرها الأجواء التركية، على حين ذهب باراك أوباما 26/11/2015 إلى أبعد من ذلك بكثير فقد قال: «إن هذا الأمر (يقصد إسقاط الطائرة) سوف يتكرر إذا ما واظبت موسكو على قصف مواقع المعارضة المعتدلة، ما يعني أن الأمر كله لم يكن تطبيقاً لقواعد الاشتباك وإنما لحسابات تركية لعب فيها الناتو دور المحرض على القيام بالفعل، أريد لروسيا أن تخرج تماماً من المعادلة القائمة في المنطقة حتى بعدما أضحت رقماً صعباً فيها منذ الإعلان عن عاصفة السوخوي 30/9/2015 وهنا من الممكن القول إن الناتو كان قد منح لروسيا فرصتها الأخيرة (كما يقال) في قمة العشرين في أنطاليا 15-16/11/2015 التي تتمثل بوجوب انجرارها إلى التحالف الدولي ضد داعش بزعامة الولايات المتحدة القائم منذ أيلول 2014.
بالتأكيد قامت أنقرة بذلك الفعل بعد وعود قاطعة (وإن كانت ترتاب فيها) من الأطلسي بدعمها كيفما تطورت الأمور عليه، وسرعان ما تبدّدت الشكوك التركية لتنقشع عن يقينها عندما ذهبت (أنقرة) نحو طلب اجتماع استثنائي عاجل للحلف الأطلسي 24/11/2015 وفيه لم يذهب الحلف إلى أكثر من دعم سياسي ومعنوي فقد بدا واضحاً أنه لن يذهب بعيداً في التصعيد مع روسيا حتى ولو قامت هذه الأخيرة برد فعل انتقامي، الدعوة التركية للحلف تمثل بحد ذاتها عملاً يصب في بوتقة الإحباط المتولد عنها، فقد بدت أنقرة وكأنها بلد قائم بسيف الناتو فقط ولا أمن قومياً لها محفوظ من دون الغطاء الذي يظللها الحلف به.
بالنسبة إلى الناتو فإن ما يفسر هذه المسافة التي اتخذها فيما بينه وبين دعم أنقرة بشكل مطلق هو تلك الحالة التي ظهرت عليها تركيا بعد لحظات من الإعلان عن سقوط الطائرة الروسية، بسرعة كبيرة اهتزت الأعصاب التركية وبدا أنها ذاهبة نحو انفلات تام إذا لم يسارع الحلف إلى التماهي تماماً مع الفعل التركي، وهو أمر يعني (بالنسبة للناتو) أن رأس الحربة المختار للقيام بكسر الشوكة الروسية لم يكن موفقاً ولا هو يملك الكفاءة التي تمكنه من إجادة المهام الموكلة إليه.
الآن: ماذا بعد إسقاط طائرة السوخوي 24؟
قرأت موسكو تلك الحادثة على أنها إنذار غربي بوجوب إيقاف عاصفة السوخوي حيث سيليه قرارات باتجاه التصعيد معها، الأمر الذي دفع العاصمة الروسية إلى تحصين مواقعها لتعلن بعد أقل من 24 ساعة عن قرارها بنشر منظومة إس 400 ولتوضع تلك المنظومة بعد 48 ساعة من ذلك الإعلان قيد الاستخدام على الأراضي السورية، كذلك أعلن عن وجود الطراد «موسكو» المزود بصواريخ فورت المضادة للطائرات في سواحل مدينة اللاذقية.
ليس المهم هنا هو الجواب عن سؤال بديهي يتبادر سريعاً للذهن وهو: هل سيدفع أردوغان ثمن فعلته أم لا؟ ثم كيف ومتى؟ فالمهم هنا هو تلك المتغيرات التي أحدثتها الواقعة بحدّ ذاتها والتي تعتبر تحولاً في كثير من المعطيات أو في مسار التسوية السورية المفترضة، عندما اتخذت موسكو قرارها بإطلاق عاصفة السوخوي كانت إستراتيجيتها واضحة جداً فهي كانت تقوم على استحضار الحل السياسي داخل رحم العملية العسكرية القائمة، بمعنى أنها لم تكن تضع نصب عينيها إلحاق هزيمة ساحقة بالفصائل المسلحة وإنما لدفعها نحو الجلوس إلى طاولة المفاوضات بسقوف أدنى من تلك التي أعلنوها، وفي هذا السياق جاء فيينا1 وفيينا2 حيث من الممكن وضع توصيف لما حدث فيهما بالقول: إن العمل على محاربة الإرهاب وتوسيع دائرة الحرب عليه يجب أن يكون كمدخل للولوج إلى العملية السياسية وليس كمحاولة تهدف إلى الحسم العسكري، وما فعلته حادثة السوخوي هنا هي أنها أخرجت موسكو –بالضرورة- من ذلك السياق السابق ولسوف تجد نفسها مجبرة على القيام بما يمكنها من التصدي به للاستراتيجية الغربية الجديدة في المنطقة التي تقوم على إطالة الحرب لأطول فترة ممكنة وفيها تعمل على تطبيق عمليات الفرز والغربلة والتوضيب للفصائل المسلحة بغرض إعادة هيكلتها للوصول إلى «الصالح» منها أميركياً ما دام قد تعذّر بناء فصائل معارضة «معتدلة» على الرغم من تعدد التجارب وفداحة التكاليف.
كان من الواضح أن المسافة الفاصلة بين جنيف1 (30/6/2012) وبين فيينا2 (14/11/2015) هي مسافة ضوئية، إلا أنها لم تكن كافية لكل من السلطة السورية والمعارضة على حد سواء، فقد كانت الحكومة السورية تدرك في دخيلتها بأن الآليات المقترحة لإجراء تسوية سياسية سوف تفضي حتماً إلى تقديم تنازلات بعضها معلن وبعضها الآخر لم يعلن عنه بعد، على حين أن المعارضة كانت ترى في فيينا2 نهاية لمشروعها في السيطرة على القرار السياسي السوري فالتوازنات لا تسمح بأكثر من التقاسم والمحاصصة وهو ما كانت تدفع واشنطن إليه على أن يكون ذلك مدخلاً يمكن العمل من خلاله لتقويض ثوابت الدولة السورية. بات من الممكن القول الآن إن الولادة القيصرية المرتقبة للتسوية السورية سوف تخرج من رحم المعركة التي تخوضها روسيا في سورية والتي هي أقرب إلى معركة كسر عظم بعدما أجبرت موسكو على خوضها عبر ما جرى في 24/11/2015 الذي كان يعتبر البيان رقم (1) في إعلان الناتو الحرب عليها.
فيما يخص التحالف السوري- الروسي- الإيراني فعلى الرغم من المتانة التي أظهرها على مدار السنوات الخمس فإنه كان من الواضح أن ثمة تفاوتاً بين موسكو ودمشق في ما يخص نظرة كل منهما لطبيعة الدور التركي في الأزمة السورية والمنطقة بشكل عام، فعلى حين أن دمشق كانت ترى في النظام التركي ذروة العداء كانت موسكو ترى أن موجبات البراغماتية تقتضي العمل على احتواء ذلك الدور لا الغوص في إعلان الحرب عليه، كما كان واضحاً أيضاً أن ثمة خلافاً قائماً بين طهران وموسكو في طبيعة رؤية كل منهما للدور التركي أيضاً فقد كان رهان الغرب (ولا يزال) على أن الاتفاق النووي الإيراني (14/7/2015) سوف يؤدي إلى بروز الخلاف الروسي- الإيراني إلى السطح على خلفية سعي طهران الحتمي (ما بعد الاتفاق) نحو اللحاق بالنظام الرأسمالي الغربي وما يعزز تلك الحتمية في الرؤية الغربية وجود شرائح ليبرالية قوية في الداخل الإيراني وهي آخذة بالنمو والتصاعد بمرور الزمن ولسوف يتمكن الغرب من تعزيز قوتها وإيصالها إلى أن تصبح صاحبة القرار السياسي في طهران، وعليه فإن طهران ستكون آنذاك أمام تقارب أكبر بكثير من تقارب المنافع الاقتصادية بينها وبين أنقرة، إذ لطالما أنها (طهران) تدرك -حسب الرؤية الغربية- أن طريق نهوضها لن يكون إلا عبر سياسات التغريب (من الغرب) التي كانت هي الأساس الذي قامت عليه محاولاتها في العصر الحديث وآخرها مرحلة «الشاه» فيما يمكن النظر إلى المسافة الفاصلة بين 1979 إلى الآن على أنها مرحلة انقطاع قسري وليس أكثر.
اليوم بات واضحاً ما أشارت إليه حادثة إسقاط السوخوي فالأصابع العشرون (التركية والروسية) باتت تشير إلى الدور التخريبي الذي تقوم به تركيا في سورية وفي المنطقة وإلى سياسات حزب العدالة والتنمية المقامرة التي تدفع نحو المزيد من إراقة الدماء إذا ما أحسّ -وكثيراً ما أحسّوا- صانعوها بقرب اصطدامها بحائط مسدود لا نفوذية له.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن