قضايا وآراء

ماذا في «المتحوّل» الفرنسي؟

عبد المنعم علي عيسى :

عندما وصل فرانسوا هولاند إلى قصر الإليزيه في عام 2012 كان قد ورث –فيما ورث- عن سلفه نيكولا ساركوزي (2007-2012) موقفاً صارماً من الأزمة السورية كانت قد ارتسمت علاماته حتى ما قبل بدء الاحتجاجات السورية آذار 2011، وفي الآن ذاته كان موقفاً صادماً كما تشير إليه الوقائع فقد كان ذهاب باريس إلى خيارها الذي ذهبت إليه غير نابع من حسابات سياسية أو براغماتية تضع المصالح الفرنسية العليا بالدرجة الأولى، وهو توصيف طالما ذكره المفكر الفرنسي البارز جاك أتالي آذار 2012 ترسخ دمشق في الذهنية الفرنسية على أنها مفتاح الشرق الذي يمكن منه الولوج إلى فسحة الدار الشرق أوسطية ومن هنا يمكن تفسير الموقف الفرنسي الذاهب إلى أقصى درجات التطرف من النظام السوري، تماهى الموقف الفرنسي مع المحور التركي– القطري على حين بقي محافظاً على مسافة (وإن كانت صغيرة) فيما بينه وبين الموقف السعودي وهو ما مكّن الرياض من استخدام المال والنفط كجسر عبور ملغٍ لتلك الفجوة، المسافة نفسها كانت مع الموقف الأميركي أما هنا فقد كانت ناتجة (تلك المسافة) عن سعي فرنسي يعمل على تحقيق سَبْق في المواقف المعتمدة أسوة بما قامت به باريس في ليبيا على خلفية القرار (1973 آذار 2011) في سابقة نادرة يجب التوقف عندها طويلاً عندما تبوأت القوة الفرنسية التحالف الدولي لغزو ليبيا إذ لطالما كان أي تحالف غربي منوطاً بالزعامة الأميركية حتى إن الأمر يعتبر من المسلمات السياسية.
سعي باريس إلى هذا السبق المذكور لم ينطبق على مواقفها من آفة الإرهاب التي تحولت الجغرافيا الوهابية إلى مركز تصدير لها لجميع أنحاء العالم، على الرغم من وجود مناخ عام أوروبي كان (ولا يزال) يميل إلى اعتبار تلك الجغرافيا هي الرحم الأمثل لنشوء ونمو فكر القتل أو فكر السلفية الجهادية كما يحب البعض أن يسميه، كان هذا الموقف الفرنسي المتراجع يتزامن مع مواقف أوروبية تركت وحدها في الوقت الذي كانت تعبر فيه عن أدق الحالات التي تنتاب الشارع الأوروبي وهو ما فعلته الحكومة السويدية التي أصدرت وزارة خارجيتها شباط 2015 بياناً اعتبرت فيه أن النظام السعودي هو من مخلفات القرون الوسطى ولا يمكن له العبور إلى هذا العصر الذي نحن فيه بأدوات تعود إلى تلك القرون.
أصاخت آذان الإليزيه في رسم سياساتها لما كانت تأتي به تعاليم شركة توتال النفطية العملاقة وكذلك شركات صناعة الأسلحة الفرنسية التي أوصت بغض الطرف عن أي سياسات من شأنها أن تضرّ بالقنوات التي تسيل منها أمواج النفط أو أكداس الدولارات على حين أصمت أذنيها عن أي تحرك أو إرادة فرنسية أخرى.
كانت قراءة الإليزيه للمشهد السابق قراءة خاطئة، فحراك الداخل الفرنسي (أياً كان حجمه) لم يكن يعبر عن دعمه للسياسات المتبعة، وإنما عن دعمه للسياسات التي يجب أن تتبع بدليل أن استطلاعات الرأي المتزامنة مع شارلي ايبدو كانت تقول إن شعبية فرانسوا هولاند هي الأدنى في تاريخ الرؤساء الفرنسيين الذين تعاقبوا على حكم الجمهورية الخامسة.
الآن ما بعد تفجيرات 13/11/2015 ستكون باريس ملزمة بإجراء مراجعة شاملة لسياساتها التي تعتمدها وتحديداً فيما يخص المواقف من بؤرة التطرف الوهابية وهي ستكون بانتظار متغيرات كبيرة لن تقتصر على تلك التي ستطول التركيبة الأمنية والبوليسية وإنما سوف تتعداها إلى إعادة النظر في السياسة الخارجية الفرنسية وفي الذروة منها الأزمة السورية.
الآن لم تعد مهمة تلك المماحكات التي كانت تسعى نحو الفصل بين الجهاديين المعتدلين والجهاديين الإرهابيين، فالأولوية ستكون- بالنسبة لباريس- هي لمحاربة تنظيم (الدولة الإسلامية) ولن يكون بمقدورها الاستمرار في دعواتها للتفاوض مع الإخوان المسلمين كتيار كانت تراه معتدلاً، وإن كانت تلك الرؤية قد فرضتها حالة التماهي الفرنسية مع الأتراك والقطريين.
بعد اليوم ستكون الصلة الرحمية التي تجمع بين الوهابية وتنظيم القاعدة وفروعه هي التي تشغل بال صانع القرار السياس الفرنسي كما سيكون البناء عليها العمود الفقري الذي سيحمل التوجه الجديد للسياسات الفرنسية فـ«ما من مغالاة في الحذر» كما يقول المثل الفرنسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن