ثقافة وفن

من معجزات الغناء العربي.. ولدت في الماء وماتت فيه.. «أسمهان» تاريخ من المآسي والأوجاع العظيمة على وتر النغم

| وائل العدس

احتفل موقع البحث الشهير «غوغل» بالذكرى الـ103 لمولد الفنانة السورية أسمهان التي ولدت في الماء وماتت فيه، عن عمر ناهز 32 عاماً، وهي فترة قصيرة أحدثت خلالها ثورة كبرى في عالم الغناء، ووصفت بأنها إحدى معجزات الغناء العربي.
«يا بدع الورد يا جمال الورد من سحر الوصف قالوا على الخدّ الورد يا جمالو»، هذه الكلمات التي تغنت بها النجمة الراحلة أسمهان تنطبق عليها، فهي تمتلك الكثير من السحر والجمال الذي لا يقاومه أحد، فكل من نظر إلى عينيها وقع في غرامهما، بجانب ذلك كان لأسمهان صوت مملوء بالشجن والفرح في وقت واحد فعندما تسمعها وهي تغني لليالي الأنس التي عاشتها في فيينا تجد كل من حولك يرقص ويشع بهجة وفرحة من حلاوة هذا الصوت.
وأيضاً عندما قررت أن تداري آلامها وأحزانها وغنت «نويت أدارى آلامي.. وأخبي دمعي ونحيبي واحكي شجوني وغرامي.. لحالي ولطيف حبيبي ويفيدني إيه النواح.. والناس تشاهد أسايا.. والدمع زاد الجراح.. وكنت فاكره دوايا.. وليه بكايا وأنيني.. واللي بحبه سعيد.. وإن كان يغيب عن عيوني.. كفاية صانله العهود»، تجد قلبك يعتصر ألما من قوة صوتها الذي يخترق القلب.
«أسمهان»، التي تركت تاريخاً من المآسي والآلام، يملأ حياة قصيرة زمنياً لكنها عظيمة الأوجاع، حياةً تشبه حركة موج البحر الذي تلقى هذه الطفلة، التي عاشت تبحث عن أرض ثابتة بعد أن سئمت أرجحة الموج، فكانت لها روح دائمة القلق، دائمة التطلع، تخاف الاستقرار، حتى وصل الأمر إلى أنها لم تستقر على بيت واحد أو زوج واحد أو حتى ملحن واحد لمجموعة أعمال.
عاشت ظروف اللجوء وهي مازالت في رحم أمها، ثم ذاقتها وهي في مرحلة الصبا، حيث كانت تعي معاني الغربة، والفقر، واليتم قبل أن تدرك معاني الحب، والثراء، واللهو.
ولدت آمال الأطرش، وهو الاسم الحقيقي لأسمهان، على ظهر باخرة مبحرة من الأناضول أثناء عودة أسرتها إلى السويداء في 25 تشرين الثاني 1912، إذ كان والدها الأمير فهد الأطرش والياً على قضاء «ديمرجي» في تركيا.
ومع بداية العشرينيات بدأت الثورة السورية الكبرى في جبل العرب. وحينما اشتد أوارها، لاحق الفرنسيون آل الأطرش في كل مكان. فأشار الأمير فهد على زوجته علياء المنذر بأن ترحل مع أولادهما الثلاثة، فؤاد وفريد وآمال، إلى لبنان ومن ثم إلى مصر التي دخلوها بمساعدة الزعيم سعد زغلول، إكراماً لثورة جبل العرب ضد الاستعمار الفرنسي.
وفي مصر، سعت الأم علياء إلى إدخال أطفالها إلى مدرسة «الفرير» الفرنسية، وأخفت نسب آل الأطرش، وسجلت فؤاد وفريد باسم الـكوسا. وكانت السيدة علياء صاحبة صوت جميل وتجيد العزف على آلة العود، فتعرفت إلى بعض الموسيقيين، ومنهم محمد القصبجي الذي أعجب بصوتها ولحن لها عدداً من الأغاني باسم «عليا المنذر الأطرش»، وغدا بيتها مقصد الفنانين، ومنهم محمود صبح وداود حسني والشيخ زكريا أحمد.

بداية الطريق
المصادفة وحدها، قادت أسمهان إلى الأضواء، حين استمع داوود حسني لصوت رخيم خلال زيارته للملحن الشاب «فريد» في منزل العائلة، وحين علم أنها الأخت الصغرى له طلب منه أن يستمع إليها مجدداً، فقدمت له الصبية الشيء الوحيد الذي تملكه ذاكرتها إلى جانب الألم، وهو مجموعة من أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب، فأطلق عليها داوود حسني اسماً فنياً هادئاً كموج البحر ملكيا كأصلها: «أسمهان»، وأطلق معه موهبتها التي بلغت الآفاق.
وذات يوم، وبينما كان القصبجي في زيارة لبيت علياء المنذر، سمع آمال وهي تردد أغنية أم كلثوم «سكت والدمع تكلم»، فلم يصدق ما سمع وتملكته الدهشة من صوتها الساحر، فما كان من داود حسني ومحمود صبح وزكريا أحمد إلا أن أجمعوا على تبني هذا الصوت النادر، فتعهد داود حسني بتعليمها العزف على آلة العود، في حين قام الشيخ زكريا أحمد بتعليمها أصول الإلقاء الغنائي، وتفرد محمد القصبجي في تعليمها المقامات وطرق الانتقال بين النغمات.
غنت أسمهان من ألحان داود حسني والقصبجي وفريد غصن وزكريا أحمد قبل العام 1930، وأقنعها شقيقها فريد في ذلك العام بالعمل معه في صالة «منصور» في القاهرة، وهو التاريخ الذي بدأت فيه الغناء بشكل فعلي ورسمي.
وفي العام 1932، جاء إلى القاهرة الأمير حسن الأطرش ليعود بها إلى جبل العرب حيث تزوجها وأقامت في قصره مدة ست سنوات، أنجبت خلالها ثلاثة أولاد، بقي منهم على قيد الحياة ابنتها الوحيدة كاميليا.
وعادت اسمهان إلى القاهرة في العام 1938 بعدما حصلت على الطلاق، لتبدأ رحلة الشهرة والنجومية، ولتغدو واحدة من أهم مطربات القرن العشرين، وغدت المنافسة الأولى لأم كلثوم، فقدم لها القصبجي أبدع ثلاث أغان: قصيدة «ليت للبراق عيناً»، وقصيدة «اسقنيها بأبي أنت وأمي» وهي من شعر الأخطل الصغير بشارة الخوري، وأغنية «فرق ما بينا». ثم لحن لها رياض السنباطي «حديث عينين»، وأيضاً اتصل مدحت عاصم بأسمهان من طريق شقيقها فريد ليلحن لها «يا حبيبي تعال الحقني»، ثم أتبعها بمونولوج «دخلت مرة في جنينة».

آخر مكالمة
كانت آخر مكالمة تلفونية بين فريد وأسمهان قبل وفاتها بساعات حيث أجرت محادثة قصيرة قبل استئناف تصوير مشاهدها في فيلم «غرام وانتقام» حيث قالت له «فريد أنا مسافرة لمدة 48 ساعة بس وعايزاك تعمل بروفة مع الموسيقيين لغاية ما أرجع»، وترك رحيل أسمهان فراغاً كبيراً في حياة فريد الأطرش حتى إن الحزن كان يكسو ملامحه عند ذكر اسمها في أي مناسبة وفى آخر حواراته التلفزيونية مع ليلى رستم رداً عن سؤالها عما يتمناه قال: «أن تعود له صحته من جديد ليستطيع أن يكمل مشواره الفني وأن يجد موهبة تشبه شقيقته أسمهان التي قال إنها لو مازالت على قيد الحياة كان قدم معها أروع الأغنيات والأعمال»، حيث تعاونا معاً في عدة أغنيات منها أغنية «بدع الورد» و«يا حبيبي تعال الحقني» و«ليالي الأنس في فيينا» و«الشمس غابت أنوارها» و«كان ليا أمل».
لغز وفاتها

في صباح يوم الرابع عشر من تموز 1944، وبينما كانت اسمهان في طريقها إلى رأس البر لقضاء فترة راحة من تصوير فيلم «غرام وانتقام»، مع إحدى صديقاتها، هوت السيارة التي تقلها إلى قناة مائية (ترعة) في منطقة المنصورة وهي في طريقها إلى الإسكندرية.
ومن الثابت والمؤكد في هذه الحادثة الغامضة، أن السائق قفز من السيارة وألقى بنفسه على الحشائش، تاركاً السيارة تستقر بمن فيها في قاع الماء، فماتت أسمهان غرقاً, وقيل الكثير عن الواقعة التي صورت على أنها حادث سير عـادي، وظل السؤال قائماً إلى اليوم: من قتل أسمهان؟ ومن كان وراء هذه المأساة المروعة؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن