ثقافة وفن

موت الواقع وصناعة الأساطير في الحرب على سورية ..دور الإعلام في الأزمة الراهنة… تغييب جوهر الحقيقة دعماً للحقيقة الإعلاميّة الكاذبة

| عامر فؤاد عامر

عندما نطالع تطوّر الأحداث في سورية والعالم، من خلال الصورة والكلمة، وكيف استخدم الإعلام كلّه دوره المؤثر في دمج هاتين الأداتين، والدفع بالنتيجة تجاه الجمهور أو المتلقي، سنفهم الكثير من اللغة السياسيّة العالميّة التي سعت للإعلان في بوق الخراب منذ آذار 2011 إلى القضاء على سورية في حربٍ ضروس، وسيلته الأولى كانت الإعلام، لنسف الهويّة السوريّة في كلّ مستوياتها، الثقافيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصادية… وهذا ما أشارت إليه بمهنيّة، وكثير من الدّقة، الدكتورة «نهلة عيسى» في محاضرتها «دور الإعلام في الأزمة الراهنة»، وذلك ضمن ندوة «اللغة العربيّة والإعلام» في قاعة محاضرات مجمع اللغة العربيّة في دمشق، ومنها أوجزنا لكم:

موت الواقع وصناعة الأساطير
تقول د. «نهلة عيسى» بالمراقبة لما جرى في الحرب على العراق نجد أن الصورة الإعلاميّة هي سيدة الحدث وهي التي قادت هذه الحرب أكثر من المجريات التي حصلت في الواقع الحقيقي ومنه كانت التجربة التي وُسّعَ نطاقها أكثر في الحرب على سورية، ولذلك تؤكد: «… إن الإعلام في الحرب على العراق وعلى سورية كان أداة استراتيجية من أدوات الصراع». وفي مقارنة سريعة، يمكن لجميع من تتبع الأحداث وسيرها، الالتفات إليها واستنتاجها اليوم من خلال ملاحظة الكم الهائل من الصور التي بُثّت عن سورية منذ بداية الأحداث فيها إلى المرحلة الأخيرة، والتي يُستنتج منها فوراً تناقض ليس فقط مع الواقع، بل أيضاً مع بعضها بعضاً. وتضيف المحاضرة قائلة: «تحوّل الشأن السوري إلى خبر شبه وحيد ومهيمن على معظم الشاشات العربيّة والأجنبية، وتحوّل مدّعو المعرفة به إلى نجوم بأهمية نجوم هوليوود».

خدعة الصورة
كان اللعب واضحاً من خلال الصورة وتجاوزاتها، فالتزوير وسيلة سهلة والأرشيف وافر بالمادة البصريّة المعدّة مسبقاً، ومشاهد لا تمت إلى أصل الصورة بصلة، ثم العمل على اختلاق مشاهد وتمثيل مشاهد أخرى يدعم بعضها بعضاً بلغة آنيّة، وتقنيات الجرافيك المتطوّرة مع الاستعانة بهواة التصوير والمراسل الهاوي وتصوير الأحداث بادعاء تسجيل كلّ ذلك لحظة وقوعه، وتقول عيسى: «… والحقيقة أن سورية تعرضت لتام تام كوني (جوقة الطبول) بصري، شارك فيه كثيرون، وكان فيه ضرب من التواطؤ في صنع الأكاذيب، وهو تواطؤ لم يبدأ مع بداية الأحداث كما قد يظن كثيرون، بل بدأ قبل ذلك بسنوات عندما بدأت أموال الخليج تستغل نجاح وشعبية الدراما السورية، فسعت لإنشاء شركات إنتاج تلفزيوني، ومن ثم استقطاب الكتاب والمخرجين والممثلين السوريين لتفرض عليهم موضوعات بعينها، ونجوم بالاسم تحوّلوا فيما بعد (عندما آن الأوان)، إلى ثوار ودعاة حرية وفقاً للأجندة الخليجية».

أدوات صناعة الأسطورة
حددت د. «نهلة عيسى» مجموعة من الأدوات التي ساهمت في جعل الإعلام أداة خطيرة في الحرب على سورية، فقد أشارت لخطورة الدراما السوريّة في السنوات العشر التي سبقت بداية الأحداث أي عام 2011 والتي صوّرت المجتمع لدينا على أنه مزيج من الفاسدين ومستغلي السلطة والداعرين، فكان كبؤرة البقاء فيها للأقوى ولا أمل فيها إلا للفاسد. ومن جانب آخر كان الأسلوب الذي قُدّمت فيه الأخبار عن سورية كميلودراما تتلاحق بالمفاجآت اليوميّة، وتتغير فيها الوجوه والحكايات وتتزايد لكنها تدور في فلك واحد…

تجسيد الانفعال واقعاً
وفي الجانب الآخر كان هناك مقدّم الأخبار الذي تدرب ليكون معلقاً على الحدث لدفع المشاهد للتمعن في الصور أكثر على أنها الحقيقة فحسب، بعيداً عن الدور الحقيقي له في استجلاء الحدث وتفسيره. وأيضاً من الأدوات البارزة التي تمّ اعتمادها في الحرب على سورية هي وهم النقل المباشر من خلال الاتصال بأي شخص في مكان وقوع الحدث ليدلي بدلوه كذباً كان أم صدقاً، وهذه حقيقة مجتزأة، وإن كانت فعلاً؟، فالهدف الأساسي منها هو خلق حالة وهميّة لتأكيد المصداقيّة في نسج الحكاية التي أرادتها وسائل الإعلام بغض النظر عن صدق ما يحدث في الواقع، وبذلك يتم دعم الحقيقة الإعلاميّة على حساب حقيقة الواقع. وتضيف الدكتورة «عيسى»: «… بهذا الشكل أصبح الانفعال هو الواقع، حتى لو كان لا علاقة له بأي واقع.. ولذلك أصبحت وسائل الإعلام ترسل المراسلين وتجنّد الصحفيين في المناطق الساخنة، ليس لنقل الحقيقة، بل لإعادة إنتاج الأحداث عبر صور بعيدة، ومهتزة.. ».

بطل وهمي
وتشير أيضاً إلى أنه من الأدوات التي تمّ اعتمادها أيضاً فكرة الخبير والمحلل النبيل واستعراض خبراتهم في جو هوليوودي، وأيضاً صناعة مشاهد يُخلق من خلالها أبطال وهميون كأظافر أطفال درعا التي لم تحمل أي صورة موثقة حتى اليوم، وأسطورة حمزة الخطيب، وقضية الكيماوي، وغيرها. وفي الطرف المقابل كان هناك عمل جدّي لتغييب آراء الأغلبية العظمى من الشعب السوري المدركة لحقيقة ما يجري على الأرض السوريّة والرافضة للتدخلات والداعية للحوار الوطني، وتسييد رأي قلّة من الشعب السوري على أنهم ممثلون له. وبذلك تصف «عيسى»: «.. اختلطت ثلاثية الإعلام الأزلية:إعلامي – حدث – مواطن، ليصبح المواطن إعلامياً، والإعلامي ناقلاً عن صحافة المواطن، والحدث سجال بينهما، والحقيقة في منأى عن كليهما…».

في أخطاء الإعلام الوطني
ترمي المحاضرة في وجهٍ آخر إلى مناقشة دور خطاب الحرب في الإعلام الوطني الذي اتسم بالانخراط غالباً، وبالأحاديّة، وعدم القدرة على الفصل بين الذات والموضوع، إضافة إلى ضعف القدرة على تحويل اللغة النصيّة والبصريّة إلى آلية من آليات تسويق صورة واضحة عن حقيقة الحرب، بدلاً من تسويق نمط «النحن» و«الهم».

بين الثقافة والتعدديّة
يحتاج تعريف مفهومي الثقافة والتعدديّة والعلاقة بينهما إلى مجلدات، لكن في التعريف المعاصر للثقافة نجد بأنها تعني: «أيّ نشاط لأي جماعة»، وتشير المحاضرة إلى أنّ: «… هذا التعريف مرن يقوّض التعصّب والتمحور حول الذات، لكن جدواه الاجتماعيّة لا تُعادل مرونته، ولا تعكس حقيقته، وهو أمرٌ تروّج له بقوّة وسائل إعلامنا من دون وعي بخطورته والتباسه… ذلك لأن الحديث عن كلّ جماعة باعتبارها ثقافة، وكلّ نشاط باعتباره ثقافيّاً، هو مقدّمة للرطانة حول التنوّع الثقافي «التعدديّة» المؤدية إلى تغيّيب الحقائق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والتي تشكّل المتغيّر المستقل، في حين تشكّل الثقافة متغيّراً تابعاً، إذ ما معنى الحديث عن تعدّد ثقافي (خاصة في الدولة الواحدة ) في غياب تعدّد اقتصادي، وكيف يمكن لثقافتين مختلفتين أن تتشاركا أنشطة اقتصاديّة وسياسيّة متطابقة؟».

هل هناك أمل في أداء إعلامي وطني جامع ومنافس؟
طرحت المُحاضرة هذا السؤال؛ وأجابت بدايةً أنه وبتوافر الرغبة المقترنة بالإرادة يمكن الوصول للإجابة الإيجابيّة، فضرورة التوظيف الأمثل لوسائل الإعلام الوطنيّة، باتت واجبة، في خدمة قضيّة التدعيم الثقافي الوطني، وذلك لن يتأتى إلا عن طريق: عرض أو صياغة تعريف محدد لمفهوم «المواطنة»، الذي يحدّد مسؤوليات الجميع ويرفع من مستوى الوعي فيها. وأيضاً تسويق المفهوم والسلوك والانتباه لما يقدّم في وسائل الإعلام الوطنيّة، وإعادة ربطها ربطا ًسليماً مع المواطن، وتغيير الصورة السلبيّة عن هذا الإعلام، وتقليص الفجوة بين المواطنين ومؤسسات الدولة، وتقوم على الأسس الآتية:
1- النظر إلى قضيّة تجديد (هيكلة) البنية الثقافيّة والقيميّة والروحيّة الوطنيّة (وأهمها الخطاب الثقافي الخشبي المجرد والمغرق في العموميات) عبر إطلاق تيار طازج وحر من الأفكار على مخزون عاداتنا، وتقاليدنا، وأفكارنا لمواجهة صعوباتنا الراهنة، كجزء لا يتجزأ من عمليّة التعافي الوطني، وتجنّب الفصل التعسفي بين الشأن العسكري والشأن المدني بكلّ تفرعاته ذاتاً ودوراً، وخاصّة أن جزءاً كبيراً من الحرب على سورية طابعه ثقافي حضاري، مع أهمية تأكيد فكرة أن الدورين يجب أن يترافقا ويتكاملا معاً.
2- العمل على تغيير المناخ الفكري والمزاجي والثقافي السائد عن أن الحرب طويلة، وأنّه من غير المجدي السير في عمليّة إعادة الهيكلة القيميّة والثقافيّة في ظل استمرار الأعمال العسكرية… وربط عملية إعادة الهيكلة الثقافيّة الوطنيّة بتأكيد استقلاليّة القرار الوطني، وإرادة الشعب السوري، وتطلعاته، ورغباته، وهو أمرٌ يدعم روح المبادرة الوطنيّة ويحفز روح المسؤوليّة، والرغبة بالمشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني.
3- العمل على أن يكون الإعلام انعكاساً لواقع حال الوطن والمواطنين، بشكل يردم الهوة بين الإعلام الوطني، وبين الفئات الاجتماعية المختلفة التي لا تجد في وسائل الإعلام الوطنية أدنى انعكاس لحياتها وواقعها والقضايا الجوهرية التي تشغل بالها.
4- يجب النظر إلى وظيفة الاتصال ليس باعتبارها إخباراً وترفيهاً فقط، بل باعتبارها أيضاً وظيفة ثقافية معرفية، مهمتها الأولى ترسيخ القيم الإيجابيّة بهدف إحداث التنمية الاجتماعيّة، وأيضاً القضاء على التناقض الفادح بين الرسائل الإعلاميّة ومبادئ الدستور الوطني التي تنص على المساواة الكاملة بين جميع المواطنين، في حين كثير من الرسائل الإعلاميّة (خاصّة الدراميّة) تروّج لمفاهيم إقصائيّة سواء على مستوى النوع، أو الدين، أو الأيديولوجيا.. إلخ.
5- يجب أن تقوم وسائل الإعلام بدور فعال في تخفيف الاحتقان الوطني، والتخفيف من لغة العنف، والتحقير، والتصنيف، وتنقيّة أسلوب الخطاب المستخدم من العبارات غير الملائمة واعتبار الاختلافات مصادر غنى حضاري، وليس مصادر خلاف.
6- العمل على تجنّب التعارض والتضادّ والالتباس في الرسائل الإعلاميّة بحيث لا تظهر الصورة ونقيضها في وسائل الإعلام.
7- تكثيف الرسائل الإعلاميّة، خاصّة في المناطق الأقلّ تحضّراً والأكثر تضرّراً من الأحداث بهدف رفع مستوى الوعي وتغيّير الاتجاهات نحو دورها في المجتمع.
8- إطلاق حوار وطني عبر وسائل الإعلام حول تخلّف وفوقيّة الأساليب الثقافيّة الوطنيّة التي تحتفي بالشكل على حساب المضمون وفي عمقها الأساليب الإعلاميّة، التي تبدو كأنّها تتعامل مع الجماهير كحشود من الحمقى، رغم كلّ الدلائل القاطعة التي قدّمتها الحرب على خطورة وإقصائيّة الاستقطاب الثقافي، ودور الخطاب الإعلامي والحقائق التلفزيونيّة فائقة الواقعيّة، في جرّ السياسي إلى الأجندة الإعلاميّة، وفق المبدأ التجاري الشهير «التسوّق واحد لواحد» أو العالم المُفصّل على مقاس الفرد من دون شروط ولا خبرة ولا أهليّة!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن