ثقافة وفن

الهوى إلا القليل.. كيف انتهى العمر؟!

| نجاح إبراهيم 

سؤالان يستولدهما قلمي في آخر هذه السّطور:
لماذا تجدبُ الدنيا إلى هذا الحدّ حين اقتراب الموت؟
وكيف يتنصّل الشعر من رفيقٍ عند مفترق الطرق، رغم أنهما عاشا عمراً جميلاً؟.
الجميلُ؟
ما أقساه ذلك اليوم اللندني!
الذي اكتسى نهاره بالضباب والغصّة، رغم أن آذار في فضاءات أخرى يكون متألقاً ومشعاً، وباعثاً على الخصب!

في هذا القحط، أمسك نزار قباني بقلمه، وكتب آخر قصائده، لتكون قبل موته بأيام، مُعبّراً عن الخراب الذي يُحدق به، فلا شيء بقيَ لأن يقوله فالكلام برأيه قد تعب من الكلام، وتلك الشفتان اللتان لطالما نطقتا بالكلمات الجميلة، والغزل النبيل، قد غدتا من خشب، ووجه المرأة الذي لاح في هذا القفر رآه مُرهَقاً، والنهد! «ما عادت تدَقُّ له الطبولُ!».
لا شيء حوله سوى الثلج، يحيط بذئب جريح، كما قرأنا في الروايات، هذا الثلج رآه يسقط في الحديقة، ويسقط من المشاعر، وفي الكؤوس، ومن الأصابع، وفي النبيذ، وفي السرير، فالتفت الشاعر حوله يبحث عن بديل، فلم يجد سوى القصيدة لعلها البديل! ولكن لا شيء فيها حياً، فقد يبست شرايينها، وانتهى العمرُ الجميل، فالشعر الذي لطالما كان منقذه هاهو يغادره، ولم يتبق أي بحر من بحوره، وكذلك الحبّ غادره، فلا قمرٌ يعزفُ قصص حبه، ولا وتر يغنيها، لقد انطفأ كلّ شيء، وخلت الساحة من الفرسان، وانقرضت الخيولُ، وحصان الحبّ الذي جمح به ذات يوم وارتفع كما الموج، كثورٍ هائجٍ، ماذا تبقى منه إن غاب الصهيل؟
وينظر إلى يده، علّه يجد شيئاً، عبثاً يحاولُ أن يجد عصافير الطفولة والحبيبات اللواتي اختبأن فيها، والذاكرة التي استقطرها، والأقلام التي حضنتها الأصابع، لاشيء بقي،
الأصابع، لاشيء بقي، لقد أقفرت الأوراق والشواطئ…… وكذلك الحقول.

من عادة الحمام أن يهدل على نوافذه، ثمّة غياب له وللريش والهديل، وكلّ الرسائل القديمة، التي كان ينقلها، تناثرت أوراقها والأشواق التي فيها، والكلمات الخضراء تبعثرت في كلّ الزوايا
«فبكى الغمامُ على رسائلنا / كما بكت السنابل والجداول والسهول».
ومن بين كلّ هذا الجدب، تطلّ عينا من أحبّ، كأنهما تاريخان من كحلٍ حجازيٍّ، مخلوطتين بحزن رماديّ، ومن قلق نسائيّ، وهذا ما يدفعه لأن يفرّ إلى الأمام وفي الأمام قيود وسلاسل وقفرٌ.
لم يبق شيء في يد نزار، فالبطولات التي خاضها انتهت، والعنتريات انتهت، ومعارك البلاغة والإعراب والصرف انتهت، ولم يعد شيء يعرفه، حتى ياسمين الشام الذي واكب برائحته تاريخ قصائده قد غاب عنه، ها هو نزار يبكيه ويفتقده، والأنهار والصفصاف والخدّ الأسيل، لا شيء…
عيناه في هذا اليوم اللندني البارد، تحدّقان في الفراغ، وفي يده، وفي أحاسيسه، فيغمره الذهول، لهذا رغب في السماح من المرأة التي لن تجد فيه ما يدفعها إليه، فهاهو قد جلس قبالتها على الأريكة مُحبطاً، ومبعثراً.
رغب في السماح منها، لأنه نسي بلاغته، ولم يبق من لغة الهوى إلا القليل.
سؤالان يستولدهما قلمي في آخر هذه السّطور:
لماذا تجدبُ الدنيا إلى هذا الحدّ حين اقتراب الموت؟
وكيف يتنصّل الشعر من رفيقٍ عند مفترق الطرق، رغم أنهما عاشا عمراً جميلاً؟.
هذه مادة بعنوان (كيف انتهى العمر الجميل؟).
يبدو أن العنوان ناقص: كيف انتهى العمر… أما الجميل فموجود..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن