قضايا وآراء

اجتماع الرياض: الانسلاخ الثالث

| عبد المنعم علي عيسى

خلال عمرها القصير نسبياً انسلخت (معارضة الخارج) انسلاخين مهمين كان كل منهما إيذاناً بطي مرحلة سابقة وفتح الأبواب لأخرى لاحقة، فعشية تبني الإخوان المسلمين للخيار العسكري في مواجهة الدولة السورية (تموز 2011) كان الخارج المعادي لدمشق كله يدفع بهذا الاتجاه الأمر الذي أدى تلقائياً إلى طغيان الصبغة الإخوانية على الكيان الوليد الذي استولدته تلك المرحلة في إسطنبول وسمي المجلس الوطني السوري 21/10/2011 كان تأسيس ذاك المجلس يشكل عنواناً عريضاً لضوء أخضر كانت قد منحته واشنطن لأنقرة بتولي أمر المعارضة السورية وقولبتها كما يجب أن تكون، جاء ذلك كله في سياق تحالف أميركي إخواني ظهرت علائمه مع ربيع العام 2011 إلا أنه كان سابقاً لذلك التاريخ كما يبدو بسنوات.
شكلت عملية اغتيال السفير الأميركي في بنغازي 11/9/2012 الشعرة التي قصمت ظهر البعير وذريعة كانت كافية لإنهاء زواج المصلحة الأميركي الإخواني عندها بدا أن واشنطن سوف لن تسمح باستمرار رجحان الكفة الإخوانية داخل المجلس فكانت صرخة هيلاري كلينتون التي أطلقتها من زغرب 8/11/2012 معلنة وجوب توسعة التمثيل الذي يحظى به هذا الأخير، كانت سرعة تلقف المجلس لتلك الإشارة تمثل معطى إضافياً يشير إلى أنه بات أسير الإملاءات الخارجية التي أضحت تحدد الإستراتيجيا على حين يتضاءل التكتيك الذي احتفظ به الكيان المذكور ليقتصر على طبيعة الصورة التي يمكن أن يظهر بها أعضاؤه.
عندما عقد اجتماع الدوحة 11/11/2012 كان كل شيء جاهز للإفصاح عن الكيان الجديد الذي أطلق عليه اسم الائتلاف السوري المعارض وفيه كانت عملية التوسعة المطلوبة أميركياً تطول القشور فقط من دون الدخول إلى الأعماق وهو ما تمثل بانضمام شرائح من الليبراليين أو العلمانيين الذين دخلوا بعد أن نزعت مخالبهم التي يمكن أن يغيروا أي شيء بها، فما جدوى ليبرالية ميشيل كيلو وعارف دليلة (مثلاً) إذا ما كانا (ورفاقهما) سيجدون أن الخيار الوحيد المتاح أمامهم هو الانصهار في تلك الدوامة السياسية التي استحضرها رياض الترك عبر تموضعه الجديد الذي غادر فيه جذوره الطبيعية في هيئة التنسيق ملتحقاً بالمجلس ووريثه الائتلاف، كان الترك قد استحضر معه أيضاً نظريته التي كان قد أطلقها في أعقاب الغزو الأميركي للعراق نيسان 2003، والتي سماها نظرية (الصفر الاستعماري) (جريدة النهار 28 نيسان 2003) وهي تقوم على أن هناك العديد من المجتمعات العربية تمر بمراحل تطور سلبية (دون الصفر) ولا بأس عندها من حدوث غزو استعماري يمكن أن يقوم بنقل تلك المجتمعات من مراحل تطورها السلبية إلى مرحلة الصفر الإيجابي، حتى ولو كانت الصيغة التي يمكن أن تنتج عن ذلك الغزو وهي الوصاية على البلاد (الغريب في الأمر أن الأستاذ رياض الترك كان قد انشق عن الحزب الشيوعي السوري العام 1972 بذريعة الوصاية السوفييتية عليه) كان ذلك تكراراً لخطيئة قاتلة ارتكبها بتحالفه مع الإخوان المسلمين الذين كانوا قد أعلنوا التمرد المسلح على الدولة السورية (1977 – 1983) الذي سرعان ما تبدت مؤشراته على الأرض، إلا أن ما لم يتبدَ آنذاك هو ما حمله إلينا الزبد العميق الذي طرح أوساخ الماضي على الشاطئ بلا استئذان فقد نشرت جريدة (المسار) لسان حال المكتب السياسي – الحزب الشيوعي السوري الصادر في باريس (عدد حزيران 2004) وثيقة تبرز فيها علاقة رياض الترك مع نظام صدام حسين التي بدأت سياسية في العام 1976 ومن ثم أضحت مالية منذ مطلع العام 1978 على حين قال العديد من كوادر الحزب وقيادييه إن سائق القطار كان قد أقلع في رحلة مجهولة من دون إعلام الركاب عن وجهة السير التي يريد الوصول إليها.
بشكل عام كانت ولادة الائتلاف تقوم على دواع خارجية أكثر منها داخلية فقد شهدنا بعد تلك الولادة إلغاء الوكالة الأميركية لأنقرة بعد تكليف الرياض بما كانت تقوم به تركيا في السابق إلا أن شيئاً من التوجهات السابقة لم يتغير وهو ما زاد عمق الهوة بين الكيان الوليد وهيئة التنسيق الوطنية (تأسست 25 حزيران 2011) التي بقيت مصرّة على رفض الاستقواء بالخارج تحت أي ظرف كان.
في تلك المرحلة كان الحراك السياسي الدولي قد أنتج وثيقة جنيف1 (30/6/2012) التي باتت الشماعة التي ستعلق المعارضة السورية كل غسيلها (غير النظيف) فهي وإن كانت تمثل فعلاً نقطة الالتقاء الدولية الوحيدة فيما يخص الأزمة السورية إلا أن طريقة تعاطي الائتلاف معها كانت تنم عن جهل سياسي بدا وكأنه يسود الذهنية التي تتحكم بصناعة القرارات السياسية، فعشية الإعلان عن الوثيقة ذهب المجلس (ووريثه الائتلاف) إلى رفض تلك الوثيقة إيماناً منه بإمكان تحقيق مكاسب أفضل ثم عاد وقبلها قبل أيام من انعقاد جنيف2 (22/1/2014) عندما كانت الأحداث قد رمتها وراءها
كانت وثيقة جنيف1 تمثل وصاية سياسية موصوفة على دمشق لكنها مشروطة بسقوط النظام القائم فيها واستسلاماً غير مشروط للقيادة السورية وفي هذا السياق جاء أيضاً مؤتمر جنيف2 (22/1/2014) الذي أفرغته لحظة التباعد الدولية الحاصلة آنذاك من أي محتوى إيجابي لا بد أن يكون قد احتواه قياساً على جنيف1، فقد فرضت مناخات الأزمة الأوكرانية التي فجرها الغرب بوجه موسكو تشرين الثاني 2013 أجواءها على جنيف2 قبل أن تتسع الفجوة بعيداً عبر ما شهدته كييف في 21 شباط 2014 (سقوط فيكتور يانوكوفيتش الرئيس الأوكراني الحليف لموسكو).
وسط هذه الأعاصير بدا أداء المعارضة السورية أشبه بمن اهتز كل شيء أمامه حتى لم يعد يفهم شيئاً مما يجري ولم تظهر في آفاقها أي محاولة لالتقاط اللحظة السياسية في أتونها وليس بعد أن تصبح حدثاً ما ورائياً لا قيمة لالتقاطه وفي هذا السياق دفنت مبادرة الشيخ معاذ الخطيب (شباط 2014) وفيه أيضاً كان تعاطي الائتلاف مع مبادرات المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا ومع حراكه الذي حاول فيه أن يواكب اللحظة الدولية على الرغم من أن أذنه الأميركية كانت أشد إصغاء من نظيرتها الروسية بما لا يقاس عندما وصلنا إلى فيينا2 (14/11/2015) كان واضحاً أن مسار التسوية السياسية للأزمة السورية قد بات في حالة طلاق بائن لا رجعة فيه مع جنيف1 ومطارحاته الإشكالية المقصودة التي كانت تنتظر انقشاع الضباب بما فيه ذلك السجال الدائر حول الدور المستقبلي للرئيس الأسد.
بدأت أحداث تشرين الثاني الماضي التراكمية تدفع نحو متغيرات نوعية في الغرب عموماً وفي واشنطن تحديداً لنرى جون كيري 4/12/2015 يتحدث عن إمكانية اللجوء إلى جمع الجيش السوري مع بعض قوات المعارضة في مواجهة الإرهاب دون أن يتطرق إلى مسألة رحيل الأسد (ولا بأس هنا من الإشارة إلى الموقف الفرنسي الذيلي عندما أعلن لوران فابيوس في اليوم التالي 5/12/2015 بأن باريس لم تعد متمسكة برحيل الرئيس الأسد قبل حدوث انتقال سياسي فهو يعبّر بدرجة كبيرة عن محور يربط باريس بكل من برلين وروما).
الحراك الحالي للمعارضة السورية يمثل مسعى لتلقف رياح الخارج (وإن كان متأخراً جداً) ومحاولة للتأقلم معها (أو التخفيف من آثارها) بدعم وتوجيه خارجي، وهو أيضاً مسعى سعودي لتجميع ما يمكن تجميعه في لحظة توازن هشة تهدد بانفراط كل شيء، وفي هذا السياق يمكن اعتبار اجتماع الرياض للمعارضة السورية 8-10/12/2015 ثمرة خالصة لذينك المسعيين، وفيه ستسعى الرياض إلى تعويم الائتلاف المعارض سياسياً (كما فعلت في الفترة السابقة لانعقاد جنيف2) بمعنى أنها ستسعى إلى أن يخلص الاجتماع إلى القول إن الائتلاف هو الممثل الوحيد للمعارضة السورية (وهنا من الممكن تطعيمه بدماء أخرى تكون مرضياً عنها سعودياً) ومن ثم فإن من يرد القيام بدور سياسي فإن عليه أن يلتحق بذلك الكيان الذي يمتلك الحق الحصري في مفاوضة الحكومة السورية، وإذا ما قُدر لتلك الخطوة أن تنجح (خطوة تعويم الائتلاف) فإن من شأنها أن تؤدي إلى نتائج هي غاية في السلبية على مسار الأزمة السورية وعلى أي تسوية سياسية مقبلة، فالمفاوضات عندها ستكون أقرب ما تكون تسير نحو قيام نظام سياسي في البلاد هو أقرب إلى نظام المحاصصة السياسية على الطريقة اللبنانية الذي جاء بها اتفاق الطائف (1989) الذي اجترحه الأخضر الإبراهيمي.
ما يقال اليوم عن انتقال المشاورات الخاصة بالأزمة السورية من فيينا إلى نيويورك (ويقال إن ذلك سيكون منتصف كانون الثاني 2016) إنما يهدف إلى ملاقاة الأداء السياسي السعودي الساعي إلى تهميش لوائح الإرهاب الأردنية المفترضة أو حتى إلى إعلان فشل الفكرة، وفي نظرة استباقية فإن نيويورك1 المفترض سيكون محاولة لزعزعة نقاط فيينا2 التسع التي أرست مساراً يعتبر حصيلة لتطورات الميدان السوري ولتعزيز موسكو لحضورها العسكري على الأرض السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن