ثقافة وفن

نزيف سورية ونزف المنتمين!

| إسماعيل مروة

إنهم أولئك الذين قتلهم هول ما حدث، فلم يملكوا القدرة على صياغة كلام بمستوى إدراكهم للحالة التي يعيشونها، إنهم العلماء الأجلاء من كل اختصاص الذين وضعوا خلاصة أعمارهم وجهدهم وعلمهم في أرضهم التي يتعشقونها سورية، فشادوا المباني، وأقاموا الصروح الطبية التي لا تجارى، وتفانوا وتفننوا في خدمة الناس وتقديم ما يلزم، وفوق ما هو مطلوب منهم.. هل نتذكر خيرة الأطباء الذين لم يتنازلوا عن عملهم في المشافي العامة، وبقوا يقدمون أفضل الخدمات المجانية حتى بلغوا سنّ التقاعد، ومن دون أن يقوم أحدهم بسحب مريض إلى عيادة أو مشفى خاص؟ هل التقيتم هذه العملة النادرة؟ بالأمس تذكرت أصدقاء ما قبل الأزمة، فقد رحل الصديق الطبيب الجرّاح البارع، وطبيب التجميل المتفوق حكمت شقير، وقد كان صديقاً مع خمسة وعشرين طبيباً، وأنا الوحيد بينهم الذي لا أنتمي للطب، وخلال العزاء هالني أن هذا العدد المهول من الأصدقاء حضر منه خمسة فقط، وكل واحد يسند الآخر إعياء وتعباً، وقد هدته السنوات الخمس! ما من أحد تخلف عن الحضور، لكن نزيف الوطن، ونزف المنتمين فعلا فعلهما، فهذا شدّ رحاله، وذاك لم يعد له من مكان، وثالث هدّه المرض، ورابع غادر الدنيا، وخامس لا يتمكن من الحضور..
عدت إلى حكمت شقير في الذاكرة ذلك البهي الذي درس التجميل في إيطاليا، وكان وسيماً كطليان القرون الوسطى، يأتيه المريض فيصحبه إلى مشفى ابن النفيس ليجري له الجراحة مجاناً لان حالته المادية لا تسمح، وبقي على ذلك حتى تقاعد مع أنه ليس بحاجة، والأطباء يعلمون الرواتب الهزيلة التي يتقاضونها، ولكنه كان من المصممين على أن الفقير بحاجة لوجود الخبراء.
وحين بدأت الأزمة والحرب كانت العروض أمامه كثيرة، وفي جلسة صباحية اغرورقت عيناه وقال: سأبقى هنا ولن أغادر، العمر واحد، وسأبقى هنا.. وعندما وجد أن كل ما جناه صار هباء صمم على البقاء، ولكن ما آلمه الحيوانات التي رباها في مزرعته وهو لا يدري ما حلّ بها! كان يسأل كيف تشرب؟ ماذا تأكل؟ كيف تعيش؟ وحين عجز عن الإجابة وأدركه اليأس تسلل إليه المرض، غالبه كما غالب الأزمة، صرعه في جولات، إلى أن استسلم له، وأدرك أن جسده من جسد سورية الغالية، فهو متعب لأنها متعبة، فأسلم قياده للقدر، وأراد أن ينطمر في ذرات تراب سورية الغالية.. كان مطمئناً بأنه لم يغادر، وبأنه أشبه سورية في مرضها، إنه نزف المنتمين الذي لا يتوقف، فهم إلى.. أو إلى.. وفي كل حال سورية تفقد طاقاتها وخبراتها، ولن تبقى وحيدة في تقبل العزاء ما دام السوري موجوداً.. رحل وهو يجمع كل كتاب عن سورية ودمشق، وكان يكتب كلمات في الحب للشام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن