ثقافة وفن

في الفلسفة الوجودية لكن في واقعيّة سوريّة .. لا مخرج… وأسئلة في وجود الإنسان السوري بعد خمس سنوات من الضياع

| عامر فؤاد عامر

يمزج «جان بول سارتر» الفلسفة في الأدب؛ اقتراباً من الإنسان وتفاعلاً معه، وهذه إحدى وسائل الفلسفة الوجوديّة في البحث عن الجواب حول السؤال المطروح في ميدان الوجوديّة، التي تشغل الفكر الذي يبحث عن سرّ الوجود البشري والتوفيق بين الموضوعيّة والذاتيّة، وبين المطلق والنسبي. في نصّ «جلسة سريّة» المسرحي وهو النص الأساسي التي أخذت عنه مسرحيّة «لا مخرج» يطرح هذا النص مشكلة الفرد مع الآخر الذي يعيش معه، ويدور حول مشكلة الوجود مع الآخرين أو الاتصال بينهم، فالعلاقات الإنسانية هي جوهريّة الوصف- كما يتحدّث النص الأساسي– فوجود الإنسان لا يقوم إلا «بالغير» ومع «الغير».

في إطار التجريب
«لا مخرج» عرض مسرحي يقع ضمن إطار التجربة الأولى لخريج قسم النقد في المعهد العالي للفنون المسرحيّة «علاء الدين العالم» الذي اجتهد في قولبة النص المسرحي الأساسي بمحبّة ليكون نصاً قريباً من الشارع السوري، ومنه انطلق لصناعة عرض مسرحي يهدف لطرح أسئلة تشبهنا ومن واقعنا، فقدم تجربته بعناية وبجديّة، ومن تصريحه للوطن اقتطفنا: «.. بدأت لحظة العمل من اختيار النص، والفكرة جاءت بأن ما يلزمنا اليوم هو سؤال له علاقة ببعد إنساني أكثر من البعد السياسي، فبعد خمس سنوات مما حدث في وطننا كان لا بدّ وببساطة أن أبحث عن تفكير إنساني أشمل من أي فكرة نتنازع فيها، وبالتالي لجأت لـ«سارتر»، فالنص جاء من حقبة تاريخيّة مشابهة ليومنا الذي نعيش، وباريس عام 1944 كانت تعيش واقع الحرب، وسؤال من أنا؟ أو الحفاظ على الهوية، وكيف؟… إلخ كل ذلك هو ما يشغل بالنا اليوم».

أسئلة الواقع السوري
أن نعي اختلافنا هو أن نحافظ على حالة التنوع التي نتميّز بها عن شعوب العالم والحضارات البشريّة التي عاشت على الأرض، فإذا وصلنا لهذه الفكرة سنبدأ بتلمّس الحلول، ولكن هذا لا يكون إلا من خلال التفكير بالآخر والشعور به، والبحث عن أسباب وجودي معه، وهذا ما اتجه إليه العرض ضمن واقعنا الذي عشناه بالاعتماد على النص الأساسي الذي اختاره مخرج العرض علاء الدين العالم، والذي وضّح لنا ذلك من خلال قوله: «… ما يقوله النصّ الأساسي كان في البحث عن الحلّ، وهو من خلال وعي الاختلاف بيني وبين الآخر، وهو الموضوع الذي لا مفر منه، لأن وجودي مع الآخر هو أمر محسوم، وببساطة هذا هو المطلوب، بالتالي خلق تساؤلات أكثر من العمل على إيجاد الأجوبة، وليكون الكلام أكثر وضوحاً طرحت شخصيّة مثليّة بعيداً عن الوصف الكاريكاتوري الذي يقّدم عن هذه الشخصيّة كما اعتدنا فقد عملت على تقديمها كمشكلة واقعيّة في المجتمع السوري موجودة بيننا، وهي من نسيجه، فقدمتها كما هي وتركت للجمهور أن يسأل نفسه عنها، وأيضاً عملت الشيء نفسه في فكرة العبودية والتماهي معها لدرجة عدم التفكير فيها من خلال شخصيّة الخادم، وكذلك كان الأمر حول الفتاة المسحوقة أو الأنثى التي تعاني في مجتمعنا، فمع مرور كل هذه السنوات لم نسمع عن تظاهرات نسائيّة ودور نسائي فاعل كما يجب، فأين هي الأنثى اليوم في مجتمعنا؟ أعتقد أن هذه الأفكار هي الحاضرة في حياتنا بقوة اليوم».

من الفصيحة للعامية
وعمليّة التبييء
العمل على تحويل نص غربي من خلفيّة تعتمد على لغة الفلسفة هو أمر ليس بالهين، فكانت إحدى الدلالات على تعب فريق عمل «لا مخرج» هو العمل على تحويل النص من فصيح إلى عاميّة قريبة من واقعنا، والبحث في الشكل البيئي القريب من بيئتنا والمساهمة من الممثل في فهم الدور ضمن اللغة التي نعيشها ضمن الصورة الأقرب للواقع الذي يهمّ السوري دون غيره، وقد عملت «رهام محمد» على ترجمة النص الأساسي من الإنكليزيّة ودققته عن الفرنسية، واشترك الجميع في نقل وتحويل النصّ من الفصيحة والخطابات باتجاه الحياة اليوميّة، ومعالجة الفكرة الميتافيزيقيّة التي تندرج تحت عنوان «مكان الجحيم» وكلّ ذلك بلغة من التعاون كي يكون النص النهائي أكثر ضبطاً وتماسكاً، مع الابتعاد عن الغموض، وبعد ذلك جاء العمل على تشكيل الصورة الأخيرة للعرض، ووضعه في مدّة ساعتين لا تحملان أي حالة من الملل بل فيها الحياة والقرب من الذاتيّة في واقعنا السوري، وقد تطلب كلّ ذلك جهداً في العمل كورشة بحثاً عن شكل بيئي ينسجم مع خصوصيّة سوريّة، وهذا الضبط قام به بصورة أساسية الدراماتورج «حازم صالح» كما أن الممثلين «جان دحدوح»، و«كندة حميدان»، و«لمى بدور»، و«معن حمزة»، كان لديهم دور في عمليّة التبييء تلك من خلال تبنيهم للعمل والتفكير بمحبّة وجديّة لإنجاح العمل في لغة من التعاون، يفترض أن تتجه فيها كلّ الأعمال المسرحيّة السوريّة إلى منهجيّتها.

موسيقا وفضاء
لم يحمل العرض إيقاعاً للموسيقا كما اعتدنا في كثير من العروض فلا شرط للموسيقا في «لا مخرج» فقط في نهاية العرض كان هناك مقطع من «حصان تورينو» الذي يحمل في بنيته شيئاً من الأبدية أو التكرار، لكن يمكن القول بأن لحظات الصمت التي رافقت العرض كانت هي نفسها الموسيقا التي جعلت من المتلقي أكثر قرباً من البحث عن السؤال الذي يهمّه. ولن نغفل المقطع الغنائي الذي أدته «كندة حميدان» الذي حمل اشتراكاً مع المتلقي الذي تقاسم المشهد، وكأنّ الأغنية في باله وتهمّه، والبعض من الجمهور كان يرددها فعلاً معها، ومن هناك يمكن الإشارة أيضاً للفضاء الذي اختاره المخرج «علاء الدين العالم»، وهو عبارة عن قبو في بيت شامي قديم يشبه تماماً وصف الموقع الذي تكلّم عنه الخادم، بأنه غرفة وفي الخارج سرداب يوصل لغرفة أخرى وهكذا، وهنا إشارة جديدة لتكامل صورة «البروشور» مع هذا التوصيف، وبذلك يمكن القول بوجود لغة من الترابط بين عناصر كثيرة، اشتركت في ولادة هذا العرض المسرحي الجدّي بكلّ معنى الكلمة.
الاجتهاد في 8 ساعات يومياً من التمرين المتواصل خلال مدّة 4 أشهر ونصف، ليكون العرض المسرحي «لا مخرج» أكثر تكاملاً بين العروض التي أنتجت مؤخراً، فقد احتوى على أسئلة «الآن هنا» من منطق مسرحي، واعتنى بقربه من الهمّ السوري اليومي، وابتعد عن حالتي الملل في مغامرة «ساعتين من الزمن» لعرض مسرحي، والغموض الذي تعاني منه معظم العروض المسرحيّة، فكانت لغة العمل في ورشة نظرية، مدّة 3 أسابيع، لتمتين الفكر النظري لنص «جان بول سارتر» وماذا يفعل الجميع في هذا العرض، قبل المباشرة في التدريب العملي والشكل النهائي للعرض المسرحي. بالتالي كان هناك اشتراك في الهدف من العمل بين الجميع، ومعرفة في كيفيّة التوجّه، قبل العمل على التدريب العملي.

أخيراً…
«لا مخرج» عرض مسرحي من تأليف «جان بول سارتر» ومن إعداد وإخراج «علاء الدين العالم»، والمخرج المساعد «حازم صالح»، والأداء: «جان دحدوح»، و«كندة حميدان»، و«لمى بدور»، و«معن حمزة»، وترجمة النص «رهام محمد»، والسينوغرافيا «إيهاب حداد»، و«عيسى قارصلي»، و«رواد حداد»، والإضاءة «نورما برنيّة»، وتصميم الأفيش والبروشور «هاني عباس»، والعمل جاء برعاية «مواطنون فنانون».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن