ثقافة وفن

«ياسمينة الشام» وأبجدية الحب.. فيروز قيثارة الروح

| سوسن صيداوي 

«ياسمينة الشام»… لقد أحببت هذا اللقب وهو واحد من بين ألقاب عدة لقبت بها السيدة فيروز، فيروز التي كان من السهل عليها مع الأخوين رحباني أن توقظ الصباحات وتزيل أرق المساءات، وأن تكون حاضرة في كل الفترات ومشاركة في كل المناسبات، ولأنها الاستثناء من القاعدة مع الأخوين رحباني عاصي ومنصور، انطلقت في الخمسينيات متميزة بمئات من الأغاني القصيرة المدة والقوية المعنى والتي كانت عكس الأغاني العربية الطويلة السائدة في ذلك الحين، فبساطة التعبير وعمق الفكرة الموسيقية، إضافة إلى تنوع المواضيع جعل من فيروز « الصوت الساحر» أفضل مغنية رومنسية بالشرق العربي وأفضل من يكون الأم والأخت والابنة والعاشقة والمجروحة…… بمعنى أخر جعل منها واحدة من كل المجتمع وبكل ما فيه، بكونها قريبة وهي على علم ودراية بكل ما يدور في البال من أفكار وبكل ما يشعر به القلب من أحاسيس، فعلى دروب الهوى مشينا مترافقين مع صوتها العذب، الباعث والمؤكد أنه مهما حدث فهناك أمل، صوت ندي يأتي كنسيم الوادي الآتي من خلف الضباب، مؤانساً سهرتنا نحن وجارنا القمر، كاشفا عن أزمنة وأماكن وذكريات مع حنين في مشاهد ولحظات ماضية. فيروز «صوت الحب» كانت ولا تزال لي ولك وللجميع، فلقد استطاعت بصوتها وإحساسها غير المحدود أن توحي لكل من يسمع أغانيها بأنها تخاطبه وتتوجه إليه بالأغنية… نعم له وحده دون غيره، فهذا أمر طبيعي لأن فيروز بمشاعر الحب نجدها «عصفورة الشرق» المنذور للحب بكل حالاته ومراحله، وعلى الرغم من قدرة هذه العصفورة على أن تحتضن كل العالم بجناحيها وتهاجر إلى بلاد الشمس والدفء إلا أن فيروز «صوت الأوطان» آثرت البقاء واحتضان الوطن المتمزق وارتبطت بأرضه التي أنجبتها متمسكة بها راسخة، كما غنت لكل عربي مهاجر لتشعل قلبه بنور ذكرى الوطن الجميل من خلال البيت، الضيعة، الجدة، الطاحون وغيرها الكثير، ولطالما اعتبرت آلام الشعوب العربية وما يجري في الساحة من قضايا من مسؤولياتها، فلقد اختارت الأجمل من الأغاني الوطنية حيث أنشدت عن لبنان، دمشق، الإسكندرية، مصر، مكة، القدس، وفيروز «ملكة المسرح» لم تكتف بالأغاني فلقد اهتم المسرح الذي قدمته من خلال مسرحياتها الفُلكلورية، بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم، الوطن والمواطن، مع ضرورة الالتزام بالقضايا والتمسك بالكرامة ومقاومة الاعتداء، والإشارة إلى أهمية تقديم المقاومة الشعبية بصورة سلمية، ولأن الوطن يعيش بقلب وروح فيروز «قيثارة السماء» فكان أمرا طبيعيا أن نشعر بالقدسية التي تلف بأغانيها، واعتبر الكثيرون أن الأغنية الفيروزية هي بحد ذاتها صلاة، وهذا ليس بغريب عن فيروز فهي إنسان مؤمنة وتعيش في محيط مؤمن بين الكنائس والمعابد، كما أنها تعيش في «قلب اللـه» والذي فسره البعض بالوطن، وغنته فيروز في كثير من أغانيها مثل «سائليني» حيث تقول: «أنا حسبي أنني من جبل هو بين اللـه والأرض كلام».
ولا بد لنا من أن نتأثر من هذا الجو الروحاني المطبوع بفيروز «الصوت الملائكي» وفي أقوالها وسلوكها، ومن الطبيعي أن نشعر بالارتياح والاسترخاء والتأمل عندما نسمع فيروز «النغم الحالم» لأنها معتادة أن تصلي بأغانيها فمثلا تختم بالصلاة في أغنيتها «خدني»، وأحياناً تبدأ بالصلاة في مطلع الأغنية كما في أغنية «بعلبك»، وأحياناً ترافق الصلاة مجمل أقسام أغنيتها كما في «زهرة المدائن»، «ساعدني يا نبع الينابيع»، و«عا اسمك غنيت».
فيروز «الصوت الذي لا يموت» يأتي ميلادها في 21 تشرين الثاني، وحتى الآن لا تزال فيروز «امبراطورة الأغنية العربية» سر من أسرار العشق الذي لا يمكن كشفه.
«سفيرة الأحلام» فيروز آتت من بيئة متواضعة، من منزل صغير وفقير في حي زقاق البلاط البيروتي، واستطاعت التدرج في الإذاعة اللبنانية من مغنية في كورس إلى «ملكة الغناء العربي»، ملهمة كل مستمعيها في العالم، لتكون «أسطورة العرب» بعد لقائها عاصي ومن ثم زواجها منه، حيث اجتمعت المهارة الفيروزية بالعبقرية الرحبانية مشكلة مدرسة فريدة في الغناء العربي.
لا تزال أسرار هذا اللقاء صعبة التفسير، رغم أن الكثير من الكتب سُطرت محاولة فهم هذا السحر في الكلمة واللحن والصوت، ولكن سيكون الزمن هو الكفيل بتقديم الفهم الأعمق للظاهرة الفيروزية، وسيساعدنا حتما على إدراك أفضل لمجمل الأعمال التي قدمتها «سفيرتنا إلى النجوم»، مع رؤية الفرق بين مرحلتها مع الأخوين عاصي ومنصور، وتلك التي أصبحت فيها رفيقة لابنها زياد، وشريكة معه في الكلمة واللحن.
وفي النهاية فيروز يا «صديقة الطفولة» أمنيتي لك بعيدك بأن تحرسك المحبة، وبما أن لك من أعمارنا عمر، خذي من كل واحد منا ثانية وتمسكي بطول العمر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن