ثقافة وفن

الضباب رواية وجود.. يهيمن الشر ويموت الطيبون … الروائي يصنع الأقدار ليقدم رواية فلسفية لكنها…

| إسماعيل مروة

كانت الرواية بحاجة إلى دراسة متعمقة في الأديب والرواية على السواء، وقد أحسن المترجم في مقدمته حين أشار إلى اختصار الخصائص الكتابية لميغيل دي أونامونو، ولخصوصية روايته الضباب، ولا أنكر بأن هذا التقديم للرواية شكل حافزاً لقراءتها بسرعة، إضافة إلى ما عرف به المترجم جعفر العلوني من إخلاص للأدب الإسباني وترجمته وتقديمه للقارئ العربي، وحسبه أنه لم يكتف بالمعروف الشائع عند القارئ العربي، بل فتح صفحات تكاد تكون مجهولة ومطوية من الأدب الإسباني، وكان له السبق الأول في تقديمها للقارئ.

الضباب عنوان ودلالة
اختار المؤلف لروايته عنوان الضباب، وهذا العنوان فيه من الدلالات والإيحاءات ما فيه، ومع تقليب الصفحات الأخيرة من الرواية يلمس القارئ أنه يقلب حياة هي أقرب ما تكون إلى الضبابية، وعدم الوضوح لدى بطل الرواية، لذلك كان لابد من تدخل المؤلف، وتحوله إلى شخصية محورية في الرواية ينهيها كما يريد هو، ويقدم رؤيته الخاصة بتداخل مقبول ومحبوب ومفسّر للضبابية التي لفت سيرة ابن أمه، وفاقد الأم والحنان الحالم أوغوستو، الذي يمثل خطاً مستقيماً للحياة، لا يتغير مطلقاً، والتنامي الذي حصل في شخصيته كان فجائعياً، وكان ضرورياً في سيرورة الرواية، إذ لا يملك الروائي وأوغوستو سوى هذا التطور الصاعد إلى سماء تستقبل الطيبين ورفاقهم، وتترك المساحة الأرضية لإيوخينيا وحبيبها المتواطئين ضد طبيعة الأشياء، وضد إنسانية الإنسان… وكان الضباب يلف الرواية، ويلف رؤية أوغوستو الذي كانت الأشياء واضحة أمامه تمام الوضوح، ولكنه لم يشأ أن يدفع الضباب بيديه لتصبح رؤيته مقنعة، ليرى روساريو وكلبه والخدم لديه، الجميع يرى إلا هو، الضباب يلف حياته وروحه، لذلك وصل إلى ما وصل إليه من دون أن يلتفت إلى أي تحذير يمكن أن يصدر عن هذا الحدث أو هذا الشخص! إنه ضباب الرواية وضباب الشخص ورؤيته.

تضاد وتواطؤ
تبدأ الرواية مع تتبع أوغوستو لإيوخينيا التي فتنه طيفها، وكأنه يخرج من عباءة المرأة التي أنجبته أمه بعد رحيلها، وها هو يصرّ ويلح ليعرف البيت ويحادث البوابة، ويعرف أن للفتاة حبيباً، ويصرّ على البقاء وعلى الصراع، ترى أكان أوغوستو يعلم أنه غير قادر على الحرب؟ وأونامونو لوّث أوغوستو وطيبته بالمال إلى درجة كبيرة، فجعل القارئ يتوهم كما إيوخينيا بأن الحلول التي يقدمها أو يمكن أن يقدمها كلها حلول مالية، لأنه ملك ما لا يملكون! ولكنه في الوقت نفسه هو طيف حالم لا يعرف الواقع أو لا يعرفه، مرفوض ممن حوله لحلمه، مقبول من ذاته لاختلافه.. هل هو موجود أم لا؟ هل هو حكاية المؤلف؟ هل هو حلم مزعج رآه أونامونو وقدمه ليتدخل في نهايته؟ هل هو صراع من نوع ما بين حقيقة الحياة، ورؤية الحالمين؟ وماذا يشكل المال عند الإنسان؟

الممكن وغير الممكن
السؤال المطروح هل كان أوغوستو موجوداً؟ هل هو حقيقة؟ وهل هناك هذا القدر من الطيبة والغفلة؟ وإن كان طيباً حقاً ومتسامحاً حقاً لمَ انتهى هذه النهاية الفجائعية الغريبة؟ كيف أثر فيه الغدر إلى هذا الحد؟ لمَ تركه أونامونو خاوي الوفاض من كل شيء؟ لماذا خسر كل ما بين يديه من أحاسيس واحتفظ بالمال؟ نموذج مثالي يمشي من دون أي احتراز من مطب، ومن دون أن يتعلم من أي حدث مهما كان هذا الحدث مؤشراً، ومع إيوخينيا وحبيبها، روساريو وحبيبها ومع شخصه الذي يحيا بلا حب، ولا يجيد الحب، وإن جاءه الحب طرده، وإن نفر منه الحب لحق به وحاول أن يقتنصه، ولكنه لا يملك إلا قبعة وجلوساً على أريكة ومحاولات غير مكتملة!
يعلم أوغوستو بأن لإيوخينيا حبيباً، تخبره الحارسة، تخبره عمتها، تخبره هي، لكنه يريد أن يتابع لعبته غير عابئ بشيء الكناري عندهم يقابل الكلب، تقليدية العمة وفوضوية زوجها نموذج مهم للتلاعب بأوغوستو، وشخصية إيوخينيا التي جذبته تتعلق بأصابعها والعزف، لكنها تخبره بأنها تكره العزف ولا ترغب فيه إلا أنه وسيلة حياة لها، ولا يتنبه، وحبيبها العاطل عن العمل تخبره عنه ولا يكترث، ظناً منه أن الطيبة قد تتفوق على المراوغة، ويصدم الروائي القارئ بالحديث القاسي بين إيوخينيا وحبيبها، الذي يدعوها إلى أن تستغل أوغوستو، تشمئز إيوخينيا، تزيحه من دائرة ذاتها، لكن الرواية تظهر هذا التواطؤ بينهما، فتنتهي مع حبيبها غير عابئة بمن أعطاها وشغله وألغى رهن البيت.. وكان أونامونو قاسياً عندما ألح على لسان أوغوستو في مرات كثيرة من الرواية، بأنه فك الرهن لا لشيء، ولا يريد من ذلك شيئاً، لكن التواطؤ جعل الأمر صادماً، وكأن طبيعة البشر الشريرة روحياً كما عند إيوخينيا ترفض أن تكون النفس كريمة!!

عالم متناقض متطابق
أوغوستو مع صديقه يطلع على العالم كما هو، يريه كيف يعيش ذاك مساكنةً، وكيف قررت تلك أن تحمل، ويطلع على الصراع، ويتابع روساريو وعملها في محل كيّ الثياب، ويدفع كلاً من روساريو وإيوخينيا إلى الغيرة، ويجعله المؤلف متحكماً بالخيوط سعيداً بالغيرة ليكتشف أنهم متواطئون، الجميع يعرف التفاصيل والدقائق حتى الخدم، إلا هو، وهناك إيماءات بسقوط الكناري، وإشارات التنبيه من الكلب، لكن الحلول الفجائعية تأتي من صفحات إيوخينيا ترحل مع العاطل الذي أمّن له عملاً تاركة له رسالة تنص على أنه صديق وحسب، وحبيبها يعرف روساريو، وروساريو تذهب مع حبيبها، والوحيد الكلب الذي أصرّت إيوخينيا على رحيله بعد الارتباط يبقى إلى جواره.
ما بين صديقه القديم والطبيب المعالج، والروائي الذي يدخل في الوقت المناسب تنتهي الحكاية وكأننا نجلس أمام حكواتي بارع يأمرنا بأن نغادر في جنازة مشتركة لأوغوستو وكلبه الوفي الذي مات معه.
طلب أوغوستو من الخدم أن يمددوه عارياً كما أنجبته أمه، فهو لا يزال مربوطاً بحبلها السري، وأكل حتى التخمة، وربما كان هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنه فعله من تلقاء ذاته، بعد أن عجز عن الحب بعد أن سحبت أيوخينيا قبعتها وجلست روساريو على ركبتيه.
وتبقى «الضباب» رواية وجود وحياة، وليست رواية عشق وغرام، هي رواية حياة وأسلوب تعامل مع هذه الحياة، وفيها إشارات خطرة إلى موت الطيبة، وانتصار الشر، فقد رحل كل شيء حتى الكلب، والكناري غاب عن المشهد، وبرحيل إيوخينيا توقف العزف!! هل غاب الجمال عن المشهد، وبقيت الحياة ملأى بالأشرار؟ ربما..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن