ثقافة وفن

السكين والجثة الهامدة

| إسماعيل مروة 

منذ أيام رأيت طفلاً يعمل سكينه في قطعة مهترئة من الجلد، فوجدتني أجلس إلى جواره على الرصيف وأسأله عن فعلته، فقال لي ببراءة: أريد أن أقتلها حتى لا تقتلني، إنها تفزعني! لم أستطع أن أناقشه أو أجادله، وقد استطاع في براءته أن يقنعني بأن هذه القطعة الجلدية تخيفه لذلك هو يقوم بمحاولة تمزيقها إلى قطع صغيرة للغاية لعلها تتوقف عن إفزاعه، لا أدري لم استوقفني هذا الأمر ولم يغادر خاطري، وأعترف بأنه أجبرني على تغيير قناعاتي، وصرت أنهض لأحاول ترتيب أوراقي من جديد لعلي أفهم الأمر بشكل سليم ودقيق، واسترجعت ما في تاريخنا (الشاة لا يؤلمها السلخ بعد الذبح) وأسترجع مشاهد مما يعرض عن التمثيل بالإنسان بعد ذهاب الروح منه، لأجد أن العذاب يقع على من يقوم بالتمثيل بالميت لا على الميت وأهله، فروح الانتقام هي التي تعذب المنتقم ولا تؤلم المنتقم منه، ومن هنا أجد أن العالم المتحضر كان أكثر ذكاء وإيلاماً عندما ألغى عقوبة الإعدام، وأقرّ عقوبة السجن المؤبد أو مدى الحياة، فالإعدام راحة لمن وقع عليه، والسجن هو العذاب الذي لا برء منه إلا بتمضية الوقت المقرر أو التوبة عما وقع والعودة إلى قضاء المدة كما يجب..
ليس استطراداً هذا، ولكن صديقاً قال لي عندما علم أنني تحولت للقضايا: إن هذا أفضل ما يمكن أن تتخذه من قرارات: فالنقد يا صديقي ليس أن تمتلك العدة والقدرة على النقد فقط، وإنما النقد يكون مجدياً عندما يجد أذناً واعية ومصغية وراغبة في النقد، ولا يمكن أن يكون النقد مجدياً عند من يرى أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..!
وتابع الكلام لصديقي وليس لي، والنقد وجهة نظر، وعندما تقوم بالنقد أنت لا تلغي الآخر، وإنما تقدم وجهة نظرك، وعندما يكون المتلقي قادراً على عدّ النقد عقيدة لديك، ويقوم بتصنيفك على أساسه فهذه مشكلة كبيرة!
وأردف أن أهم ما في القضية النقدية أن يكون هناك ما يمكن نقده أو ما يستحق النقد، وشبه النقد بعملية البناء وترميم البيت، والنقد ليس هدماً، راقتني الفكرة التي لم تخطر ببالي، فتابع: النقد يكون للبناء، فهل تجد ثمة من بناء توجه نقدك وترميمك تجاهه؟ وأمام دهشتي واستحساني قال: عندما تنقد نصاً يجب أن يكون نصاً قبل كل شيء، وعندما تنتقد قولاً يجب أن يكون فكراً، والعملية النقدية بالنسبة له ترميمية تزينه وتحسنه..! وعندما تنتقد أداء أو مؤسسة أو شخصاً يجب أن تتوافر فيها الصفات اللازمة، فإذا كان الأداء صفراً فعن أي شيء تتحدث؟ وإذا كانت المؤسسة غير فاعلة ولا تخدم إلا المسؤول عنها فعن أي شيء تتحدث؟ وإذا كان الشخص يفتقد المؤهلات فما عساك تقول فيه؟
إن النقد يا صديقي ليس أن تملك رؤية، بل أن يكون هناك ما يستحق الرؤية النقدية، وإلا كان العمل في الفراغ ولا يقدم فائدة، وتتحول أنت إلى جانٍ والآخر إلى ضحية!
وختم صديقي: ألم تسمع: الضرب بالميت حرام؟ ألم تسمع قول الكاتب الغربي: لا تعمل سكينك في جثة هامدة؟! وحين قرأ استغرابي وإعجابي سألني عن رأيي، فقلت سأكتبه فقال أرجوك أ، تختم هذا العام بها أريد أن أقرأ زاويتك لأعرف إن وصلك ما أريد، غادرني ذاك الصديق فجراً، وأنا قررت ألا أتشبه بطفل الرصيف العابث بالقطعة الجلدية لأنها تخيفه، ولن أتوجه إلا لما يستحق، ووحده الفكر القائم على نظريات راسخة يستحق أن يقف المرء عنده، أما الظواهر الفقاعية فتأتي وترحل ولا تترك أثراً، وفي المساء حدثني أحد الأصدقاء عن مسؤول سوري سابق في الخارج يمشي كالطاووس، ويعامل الناس هناك كما لو أنه لا يزال على رأس عمله، لكن الذين تطفل عليهم عرفوا قدره، فاختاروا له وظيفة الحكواتي المسلي الذي يروي لهم ألف ليلة وليلة كما يتوهم هو… عدت إلى طفل الرصيف وصديقي، فوجدت أن الألم أصاب قلمي، وأن روحي التي تعبت، وأن فكري هو الذي أنهك في الكتابة والمتابعة، ولا شيء يحدث، ولم تستطع كل الجهود والقراءات أن تمنحني متعة جمالية.. فعزفت على الجثة الهامدة أو الجثث الهامدة، وعلمت أن القول (قل كلمتك وامش) يجب أن يتوافر له السامع، والسكين عندما تتوجه إلى جسد يجب أن يملك الجسد روحاً تشعر، وعينين تبرقان خشية أو تحدياً..!
وحده الجمال يبقى، وإن كان هذا الجمال في القبح كما يقول الفلاسفة الألمان، فهات شعرك يا أبا نواس ومدّ بساط السرور، لتبتهج الروح، وحده الحب هو القادر على فعل شيء ما في الروح، ولا يكون الحب إلا للذات ومن الذات ليمتد على العالم كله.. دع لهم كل ما ينشغلون به، إنهم يتكومون على ذواتهم ولا يجدون قدرة على الاقتراب من بساط السرور.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن