ثقافة وفن

السخرية وعصبة الساخرين

| شمس الدين العجلاني

يقول أصحاب الشأن إن السخرية هي طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة. وهي النقد والضحك أو التجريح الهازئ. وغرض الساخر هو النقد أولاً والإضحاك ثانياً.
و يقولون إن معنى السخرية الاستهانة والتحقير، والتنبيه إلى العيوب والنقائص، على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في القول والفعل، وقد يكون بالإشارة والإيماء..

أدباء زمان والسخرية
هنالك عدد من التعاريف للسخرية لعدد من الأدباء السوريين تعود للخمسينيات من القرن الماضي في تعريف السخرية يقول الدكتور عادل العوا: « نعتقد أن السخرية أسلوب من الفكر والقول، يحتمل معاني كثيرة، وألواناً مختلفة، ويقوم بوظائف متنوعة تنوع عقول الناس والظروف والأوضاع…. للسخرية ألوان وأنواع. فهنالك سخرية الماكرين، وسخرية الأدباء. وسخرية محبي البشر. وسخرية أعداء الناس. هنالك سخرية القاتل الذي يضحك من فريسته وينهمك في تعذيبها. وهنالك سخرية المحكوم بالإعدام الذي يداعب حبل المشنقة قبل أن يعانقه هذا الحبل الكريه».
أما صلاح الدين المنجد فيقول: «تعبير يرسله المتألم، ويرسله المغيظ، ويرسله المفكر. إذا رأى شططاً أو عجباً أو مخرقة، يقولها تخفيفاً عن نفسه، وإذعاناً لسلطان الواقع البشع».
في حين رأى الدكتور جودة الركابي أن السخرية: «قد يحسب بعض الناس أن السخرية ضرب من التسلية، أو أنها هرب من الواقع للترويج عن النفس، ولكننا لا نجد كبير عناء في دحض هذا الزعم عندما نعلم أن السخرية درس من دروس الحياة ذو أسلوب جديد وتمرد على الواقع البغيض. وإذا كانت السخرية كذلك فهل هي وعظ وتعليم؟ ليست السخرية بغريبة عن الوعظ وليست أيضاً ببعيدة عن التعليم. إنها وجه المتألمين الضاحك الذين يرون اعوجاج الحياة فيثورون لا كوعاظ أو أساتذة بل كمتهكمين وسذج عاقلين وكممثلين هزليين لهذه الكوميديا الإنسانية الواسعة التي حاول بلزاك تأليفها بقصصه المنتزعة من الحياة».
والسخرية في زمن ما من تاريخنا الأدبي، كانت ذات شأن ولها روادها وصناعها من صحفيين وكتاب وشعراء، وكان لها أيضاً متابعوها من مستمعين وقراء..
في الأربعينيات من القرن الماضي ظهرت على الساحة السياسية والثقافية في بلادنا ظاهرة لم تتكرر بعد حتى الآن!؟ ظاهرة لم تتكرر بعد في التاريخ الأدبي السوري حين ظهرت جمعية أو حزب أو ندوة أو تجمع من عدد من الأدباء والصحفيين أطلقوا على أنفسهم اسم «عصبة الساخرين».
تأسيس عصبة الساخرين
يروي شيخ الصحافة السورية عبد الغني العطري، في أحد كتبه حكاية تأسيس « عصبة الساخرين» فيقول، إنه بينما كان جالساً في مكتبه، في مجلة «الدنيا» عام 1948م، زاره سعيد الجزائري، وعرض عليه أن يشكلوا جمعية أو جماعة تعنى بالأدب الساخر. وأن العرض لاقى حماسة لدى عدد من الكتاب والصحفيين السوريين الشبان الذين تابعوا الأمر وشكلوا ما عرف في التاريخ الأدبي السوري باسم «عصبة الساخرين».
وفي الحيثيات أن العصبة شكلت في اجتماعها الأول، وزارة لإدارة شؤون البلاد كان عبد السلام العجيلي رئيساً لها، في حين عين العطري وزيراً للزراعة، وحسيب كيالي وزيراً للاقتصاد…
لم تعش العصبة طويلاً، ولم تترك بصمات كثيرة في تاريخنا الأدبي، إنما كانت ظاهرة صحية بكل المقاييس، وكانت الجرائد في ذاك الزمن تتناول اجتماعات هذه «العصبة» وآراء أعضائها، وتحفل مجلة «الدنيا» لصاحبها عبد الغني العطري، وجريدة النقاد لمؤسسها فوزي أمين، بالعديد من المقالات الساخرة لأعضاء العصبة، وكذلك صور اجتماعاتهم، كانوا يتناولون شتى مشاكلنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية… بأسلوب ساخر مضحك… كان الأسلوب المحبب لأعضاء العصبة استعارة الضحك والسخرية في النقد. محاولة في حرية التعبير عمدت إلى استعارة الضاحك أو الساخر في النقد السياسي.
أعضاء عصبة الساخرين
بلغ أعضاء «عصبة الساخرين» إثنى عشر عضواً، من كتاب وصحفيين وسياسيين وهم:
عبد السلام العجيلي الذي رأى أن السخرية هي: «القدرة الذكية على اكتشاف المفارقات في وقائع الوجود وحقائقه وعلى بيانها في أسلوب يحزن ويضحك في آن واحد».
وقال نسيب الاختيار في السخرية: «السخرية سلاح ابن الغاب، ابن الغاب المتمدن الذي استعاض عن السنان باللسان، أما أثرها في الأدب، فحسبها أنها أوحت إلى «فولتير» و«شو» و»المعري» بأروع التحف، وأما أثرها في الحياة، فالذي اعتقده هو أن هنالك أشياء، شانها شأن الزهر، لا تغني، ولكنها تمنح الحياة معنى».
أما أحمد عسه فقد رأى السخرية كالجمال: في اللحظة التي يستطيع فيها أحد أعضاء عصبة الساخرين الادعاء أنه يفهم السخرية ويجرب أن يحدد أثرها في الأدب والحياة يكون قد برهن على أن روح السخرية ليست أصلية في نفسه. فالسخرية كالجمال، إذا خضت في تعريفها وأثرها أضعت الكثير من روحها وكنهها».
عباس الحامض الذي رأى أن الساخرين هم من وقفوا في وجه الطغيان: «الساخر حكيم، يعتقد بعض الناس أن التهذيب يخونه. والواقع أنه حكيم مهذب صريح…. لا يعرف الالتواء، ولا يقر اللف والدوران، فهو ناقد عريق بعيد عن الحياة، ولا يؤمن بالتملق كوسيلة… استطاع الساخرون في كل الأجيال أن ينبهوا إلى الطغاة وأقرب مثال هو أن الساخرين في سورية، وعددهم (12) وقفوا وحدهم يهزؤون بالطغيان والإرهاب في عهد حسني الزعيم في حين الساسة والأدباء والكتاب ساروا في موكبه خشية وخوفاً».
سعيد القضماني فهم السخرية أنها: «الكشف عن موطن الضعف في الإنسان في حسن أداء وبراعة تصوير، هذا الضعف الذي يدفع الأفراد والجماعات لإتيان ضروب الحمق والسفه والادعاء والغرور واللجاج في أمور لا طائل تحتها… الأديب الساخر هو الذي يستطيع تصوير المفارقات الداعية إلى السخرية مما يحتاج إلى سرعة خاطر وفطنة مرهفة وسبر لأغوار النفس البشرية..».
واختصر عبد الغني العطري مفهوم السخرية بالقول: «السخرية أجمل وأروع فنون الأدب…».
عبد الرحمن أبو قوس اعتبر أن سلاح أعضاء العصبة هو القلم: «إن عصبة السآخرين مجموعة من المهدمين الذين لم ترق لهم نظم المجتمع، ولا توزيع العدالتين السماوية والأرضية، ولم يرضوا في يوم من الأيام عن واحد ارتقى إلى أعلى السلم الاجتماعي، ولهذا جمعتهم الفكرة الموحدة.. وأنهم ضعفاء، سلاحهم القلم، واللسان، ومبدؤهم «اصرف ما في الجيب يأتيك اللـه بما في جيب الغير…».
مواهب الكيالي قال: «أنا شخصياً كنت وما أزال، أحمل مجتمعي، بسخريتي إلى طاولة العمليات كشيء حي، ولم أحمله قط إلى طاولة التشريح كما كان جثة هامدة..».
حسيب الكيالي: السخرية في نظر الداعي إبراز للتناقض الأبدي الذي تنطوي عليه الحياة، تناقض تكمن فيه بذرة التطور والصيرورة الدائمة وهي بوجهة النظر هذه عامل من عوامل الإسراع في تطوير الحياة عامل لا تستطيع أن تقول إنه سلبي أبداً.
ممتاز الركابي: «أفهم السخرية، رغم كل ما قيل وكتب عنها، بشيء واقعي سهل.. إنها لذة بسيطة! وما أعتقد أن هنالك لذة أكثر بساطة من أن تسخر من نفسك ومن غيرك… السخرية في الأدب، هي الثورة في كل معانيها، وهي التي جعلتنا نعرف الكثير عما وراء الأوهام… لأنها حطمتها! وبذلك استطاعت أن تحقق أدباً جديداً».
سعيد الجزائري يرى في السخرية الحقيقة الأبدية: «أجيز لنفسي أن أعرف السخرية بأنها الحقيقة الأبدية… أبدعها الذي أبدع هذا الكون، لأنه قرر أن يسخر بما أبدع… سخر من الأب القديم آدم، وجاء بحواء لتسخر من آدم، ولا تزال كل حواء تسخر بكل آدم وتتابعت مواكبنا نحن المخلوقات في هذا العالم الساخر من بعضه».
أحمد علوش: «إن من يعرف قيمة الحياة ويفكر في الأمور من الناحية الواقعية لا بد أن يسخر من هذه الحياة، وقد أكون مغالياً في هذا الاعتقاد، ولكني رجل صريح، وأفضل أن يقال لي أنت مخطئ في اعتقادك.. السخرية في بلادنا فن بعث للحياة مجدداً، لذلك فإن مفهومها يختلف باختلاف العقائد، أما أنا فإنني أرى في السخرية نوعاً من الحياة الواقعية التي يجب أن نحياها».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن