قضايا وآراء

أذرع الأخطبوط تفتقد الألياف القابضة

| عبد المنعم علي عيسى

تعمل الأحزاب أو الحركات عادة في تعاملها مع «الوقائع» و«المصالح» على أسطرتها عبر صوغها في أساطير غالباً ما تكون مستندة إلى أسس تاريخية أو تكون تحتوي على جزء بسيط من الحقيقة التاريخية وعندها يتم العمل على إكمال النسيج بـ«كشكش» ملؤه الكذب والتزييف على حين أن الأفكار والحقوق تتم أدلجتها بمعنى إدخالها في عمق الإيديولوجيا لضمان أن تبقى في ذروة التطلعات مهما تغيرت هذه الأخيرة بتغير الظروف والمراحل.
إذا ما أردنا إسقاط الكلام السابق على التحرك العسكري التركي الطافي على السطح منذ نحو ثلاثة أسابيع في الشمال العراقي، نرى أن الأحزاب القومية التركية قد استبقت ذلك التحرك بالتسويق داخل أوساطها وفي الشارع التركي لـ«الحق» التركي بولاية الموصل والأمر نفسه ينطبق على «سنجق» حلب وجبل التركمان في الشمال السوري، ومن بين ما تروج له تلك الأوساط أن تلك الأرض كانت قد اقتطعت عن الجسد العثماني في عام 1925 (يغيب عن ذلك الخطاب أن لواء اسكندورن كان قد اقتطع بمؤامرة تركية فرنسية عام 1939) وعندما تذهب (تلك الأوساط) نحو تقديم أدلتها لتؤكد صحة ادعاءاتها فإنها تقول إن تلك المناطق تحتوي على جماعات تركمانية منتشرة على امتداد مساحاتها في محاولة للنسج على المنوال نفسه الذي كان ينسج عليه تيودور هرتزل فقد عمد هذا الأخير إلى أسطرة التاريخ خدمة لأهداف سياسية راهنة حيث الفكرة هنا تقوم على اعتبار أن كل أرض يطؤها اليهود هي أرض يهودية. على الرغم من وهن الحجج التي يسوقها القوميون الأتراك إلا أن تلك المحاولة هي في غاية الخطورة نظراً لتبني حزب العدالة والتنمية التركي لها فهو حزب السلطة في أنقرة وفي رأس هرمه تقف النيات الأردوغانية التي لم تعد مستترة في مراميها نحو تمدد جغرافي تركي ولربما تشجع عليه حالة الفوضى والتمزق التي يعيشها الجاران العراقي والسوري على حد سواء.
تطرح تلك الأفكار إشكالية جغرافية سياسية كبيرة يمكن اختصارها بسؤال يقول: إذا كان الأمر كذلك فماذا عن أذربيجان وأوزبكستان وتركمنستان وطاجيكستان التي تحتوي أراضيها جميعها على أقليات تركمانية؟ ثم ماذا عن الأكثرية العربية في إقليم لواء اسكندرون المغتصب؟ ناهيك عن عدد آخر من الثغرات التي من الصعب حلها ما لم يتم تبني سياسات تعتمد في أعماقها على ما ذهب إليه الإسرائيليون باعتبار أن حدود إسرائيل هي المكان الذي تستطيع الدبابات الإسرائيلية الوصول إليه إلا أن من شأن تبني هذه السياسات أن يجعل منها «طاعوناً وبائياً» يفرض على الجميع التكاتف لاستئصاله.
نشأت بعد سقوط بغداد 9 نيسان 2003 علاقة رحمية بين أنقرة وأربيل كانت تل أبيب قد لعبت دوراً محورياً في قيامها عندما مارست ضغوطها على واشنطن التي قامت بدورها بالضغط على أنقرة للقبول بحكم ذاتي موسع الصلاحيات في الشمال العراقي، آنذاك قبلت أنقرة بذلك الأمر في مقابل شرطين أساسيين الأول هو ربط الاقتصاد الكردستاني بنظيره التركي والثاني أن يكون لها الحق في مراقبة تسليح الإقليم مع احتفاظها بحق الفيتو في رفض أي سلاح تعترض عليه.
أنتجت تلك العلاقة الرحمية علاقة عسكرية متصاعدة كانت تحمل بين طياتها إرسال المئات من العسكريين الأتراك إلى الإقليم وهو ما كان قائماً منذ عام 2003 إلى الآن، إلا أن الأمر لا يقيم إلا على أساس الظروف والمعطيات التي تمر بها المنطقة بمعنى أن ممارسة ذلك الأمر في عام 2006 (مثلاً) هو غيره في عام 2015، وإذا كان من الممكن تبرير الحالة الأولى على أنه تفعيل للاتفاقات العسكرية بين الطرفين إلا أن هذا التبرير لا يعود كافياً لفهم الأمر في حالته الأخيرة انطلاقاً من الظروف العصيبة التي تمر بها المنطقة برمتها.
يقرأ التحرك التركي العسكري في الشمال العراقي على محملين اثنين: الأول أن هناك تخوفاً تركياً من أن تستطيع القوات العراقية (والحشد الشعبي) من تحرير الموصل ما يعني تمدداً لهذا الأخير (الحشد الشعبي) باتجاه الحدود التركية وهنا فإن التحرك التركي يهدف إلى استباق ذلك الأمر عبر إيصال عشائر (سنية) إلى الموصل للسيطرة عليها لحظة تحريرها المفترضة، والثاني أن أنقرة ذاهبة إلى مقامرة تعمل من خلالها على القيام بعملية قضم جغرافية، وفي تفسير هذا الأمر يمكن القول إن أنقرة ترى أن الظروف الحالية التي يمر بها الشمالان العراقي والسوري هي ظروف مثلى للقيام بتلك العملية انطلاقاً من أن الغرب اليوم هو أحوج ما يكون لرضا أنقرة عليه وهو أحوج ما يكون للمياه الإقليمية التركية وللقواعد العسكرية لمواجهة التمدد الروسي المتصاعد في المنطقة، وعيه فإن تلك الحالة يمكن أن يستولد منها –بحسب الرؤيا التركية- عملية مقايضة واسعة تحمل بين ثناياها تقديم ما يريده الغرب إليه للحصول على مكاسب جغرافية تسعى أنقرة إلى تحقيقيها.
تقول صحيفة حرييت 6/12/2015: إن عدد العسكريين الأتراك في الشمال العراقي قد بلغوا نحو ألفي عسكري وتضيف: إن أنقرة لن تتوقف عن إرسال عسكرييها إلى هناك حتى يبلغ تعدادهم عشرة آلاف جندي (كان أردوغان قد أكد في تصريح له في 10/12/2015 أنه لن يقوم بسحب عسكرييه من الشمال العراقي الآن مضيفاً: إن مهام تلك القوات هي تدريب قوات البشمركة الكردية).
تدفع أنقرة بتلك القوات لأمر آخر هو غير المعلن عنه حيث ستكون المهام الأساسية لها هي تدريب العشائر في الموصل ومحيطها مع الإشارة إلى أنها (أنقرة) كانت قد عملت مؤخراً على دفع تلك العشائر للالتفاف نحو قيادة «أثيل النجيفي» (محافظ الموصل لحظة سيطرة داعش عليها في 10 حزيران 2014)
تذهب تقارير غربية إلى القول: إن تحالفاً رباعياً كان قد نشأ مؤخراً في الأشهر الأخيرة يضم إلى جانب أنقرة كلاً من أثيل النجيفي ومسعود البرزاني وطارق الهاشمي (نائب الرئيس العراقي السابق) وإذا كان مفهوماً اندفاع الأول والثالث نحو نوع كهذا من التحالفات لأسباب شخصية بحتة، إلا أن الغريب في الأمر هو اندفاع مسعود البرزاني نحو تحالفات كهذه من شأنها أن تضر بالأكراد بل تهدد بضياع المكاسب السياسية التي حققوها بعد سقوط بغداد في عام 2003.
يقرأ التحرك التركي أيضاً على أنه محاولة للسيطرة على الموصل بما فيها كركوك وأربيل والسليمانية على حين يقرأ الموقف الكردي (قيادة إقليم كردستان) على أنه لا يملك أي اعتراضات على المحاولة التركية السابقة وما يخطط للشمال العراقي هو نفسه ما يخطط للشمال السوري وإن كانت موسكو قد وضعت الأطر المسموح بها للتحرك ضمن هذا الأخير عندما ذهب فيتالي تشوركين مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة 10/12/2015 إلى تحذير أنقرة من مغبة تكرار المحاولات التركية في الشمال السوري، إلا أن الرهان التركي يبدو قائماً على انتظار متغيرات كبيرة وجذرية في المنطقة (أسوة بتغير الموقف الغربي باتجاه أنقرة والسعي نحو إرضائها) تعيد من جديد رسم موازين القوى القائمة فيها.
في خلفية الصورة السابقة تقف السياسات السعودية المدمرة التي تهدف الرياض من ورائها إلى القيام بحروب إبادة مذهبية في سياق حربها المعلنة (والمستترة) مع طهران وهو الأمر الذي يفسر دعمها اللامحدود لتنظيم الدولة الإسلامية الذي أكدته صحيفة الإندبندنت البريطانية 6/12/2015 من خلال نشر مقابلة مع ريتشارد ديرلوف رئيس الاستخبارات البريطانية (M16) السابق الذي قال فيه بالحرف: «إن السعودية ساعدت داعش في الاستيلاء على شمال العراق لأن الأمر يقع في سياق عملية كبرى هي إبادة الشيعة».
المساعي السعودية المدمرة هي التي شكلت الأرضية المناسبة لانتعاش الأطماع التركية في جغرافيا الجوار بل كانت الدافع الأكبر والمحرك نحو تشكيل الجيش التركماني الذي أعلن عن تشكيلة في 7 تموز 2015 على لسان ما يسمى رئيس المجلس التركماني السوري المدعو عبد الرحمن مصطفى، وعليه فإن السياسات السعودية باتت تمثل خطراً حقيقياً يتهدد المنطقة والعالم عبر خزانها الفكري والمذهبي الذي تستشف السلطة الحاكمة في الرياض منه سياساتها.
إلى الآن لم يهزم المشروع التركي- السعودي- القطري في سورية إلا أن ذلك لا يعني أن هذا المشروع يسير في طريقه للنجاح فدونه ودون هذا الأخير أهوال تتجاوز بكثير القدرات التي يمتلكها ذلك التحالف الثلاثي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن