ثقافة وفن

الوليد بن يزيد رجل دولة وشاعر في كليهما محدث … بين الشجاعة والخلاعة ضاعت مواصفات الرجل بأقلام المؤرخين!

| إسماعيل مروة

ما من كلمة قالها الشاعر نزار قباني أثارت لغطاً، ما بين رفض واستحسان مثل كلمته (فتاريخك يا مولاي تاريخ مزور) فهل كان التاريخ مزوراً حقاً؟ أم إن الشاعر كان محكوماً بظرف وعاطفة عندما قال هذه الكلمة؟
من المعروف أن الظرف التاريخي لأي حادثة أو قول أو قصيدة ينظر إليه بعين الاعتبار، ففي الخيبات نجد الإنسان عاكفاً على استخلاص ما في روحه من خيبة، ولاصقاً ذلك بالتاريخ والبلاد والعباد، وفي اللحظات العادية نجده مفاخراً بالتاريخ والماضي! ولكن هل تمر مثل هذه اللحظة دون تأمل؟ من المفترض أن يقف أحدنا أمام النص وقفة مطولة، وقد شهدنا مثل هذا التضارب كثيراً، فهذا هو هارون الرشيد الذي نعت بأوصاف قاسية، واتهم في عقيدته وأسرته وحياته، جاء من نافح عنه ليخرجه حاجاً عاماً وغازياً عاماً آخر، فهل كان الرشيد كذلك، أم إنه كان كما صوره جرجي زيدان في روايته التاريخية التي تناقلها الناس؟
من المؤكد أنه لم يكن هذا ولا ذاك، وإنما كان إنساناً له صبواته، وله أمجاده، ولا يسره أن يكون أحد الاثنين اللذين وصلتنا أخبارهما..!
الخطوط العريضة والتفاصيل

اعتمد الدارسون العلميون أن الخطوط العريضة التاريخية لاشك فيها، وأن أي خلاف يكمن في التفاصيل، فما من أحد يمكن أن ينكر الدولة الأموية وخلفاءها بتعاقب السنوات، ولا العباسية وخلفاءها كذلك، لكن التفاصيل هي التي تخضع للتحوير والتغيير، وهي التي تدخل فيها مجموعة من الأسباب التي قد تغيرها جوهرياً، فالهوى سبب، والميل السياسي سبب، والميل المذهبي والطائفي سبب، والانتماء سبب، وهكذا نجد أن ما يبعدنا عن جوهر الحقيقة أكثر بكثير مما يقربنا، وتتراكم الأحاديث التي لا قيمة لها ليتناقلها الناس بشغف، لتتحول إلى حقائق، وتغيب الصورة وراء ستار من عدم الرغبة في القراءة، وقد يتسلل هذا الأمر إلى نقاد وعلماء من الثقات الذين يدفعهم رأيهم العقيدي إلى إدانة هذا وتبرئة ذاك، فكم من شخصية خلافية ظلمها الهوى، ولم تفلح معها الأصوات المنصفة؟ ناهيك عن أن أي دراسة جادة لا يمكن أن تحل محل الثقافة الشفاهية التي تناقلتها الأفواه لتصبح فيما بعد صفحات في الكتب.
الوليد بن يزيد

تتناقل كتب الأدب والتاريخ الكثير عن الوليد بن يزيد، خليفة أموياً، وشاعراً مقدماً ومحدثاً، وربما كان لشعره وأدبه ومجالسته الإسهام الأكبر في العناية به وبأخباره، ومع أنه تولى الخلافة الأموية بعد عمه هشام بن عبد الملك بوصية عقدها له والده يزيد بن عبد الملك بعد أخيه هشام، إلا أن سيرته حتى في خلافته اقتصرت على شخصه وأدبه، ولم نعرف الكثير عن خلافته وحكمه، إلا عبارات إنشائية لا تقدم وصفاً ولا تحليلاً، وقد عدت إلى ما كتب عنه، فوجدته كله يصب في إدانة الوليد وحياته، وفي أحسن الأحوال كان نقاد الأدب يشيدون بأنه شاعر محدث، وبأنه أول من خرج عن القصيدة التقليدية، وأن شعره في اللهو والشراب والخلاعة هو منهل أبي نواس والحسين الخليع، فهل كان الوليد بن يزيد كذلك؟
المؤرخ والناقد الثقة الدكتور عمر فروخ في كتابه (تاريخ الأدب العربي) كان من أكثر المنصفين والمدققين في مواضع كثيرة من تاريخه الضخم، لذلك عدت إليه لأقرأ ما كتبه عن الوليد، ولكنني وجدته يتابع الذين نقل عنهم دون أن يعطي رأياً مخالفاً، ودون أن يقف عند إشارات كانت كافية ليفصل بين الحياة التي عاشها الوليد شاعراً وإنساناً، وحياة السلطة والحكم..
يذكر نقلاً عن المصادر «ولد الوليد بن يزيد سنة 90هـ.. أراد أبوه يزيد بن عبد الملك أن يعقد له ولاية العهد، فقالوا له إن الوليد طفل فاجعل ولاية العهد لأخيك هشام ثم لابنك الوليد ففعل. وتوفي يزيد بن عبد الملك سنة 105 هـ فخلفه أخوه هشام وبقي في الخلافة عشرين سنة، وكان في أثناء ذلك يسعى إلى تحويل ولاية العهد إلى ابنه مسلمة فلم يتأت له ذلك».
في هذا الخبر لا يستوقفنا سعي هشام للعقد لابنه مسلمة ونكص العهد مع أخيه يزيد؟ عشرون عاماً من خلافة هشام وهو يسعى لابنه أليست كافية لنقل صورة للوليد تبعده عن الخلافة لصالح ابنه مسلمة؟
لا تذكر الكتب عن الوليد في العشرين سنة سوى اللهو والشراب والخلاعة، فأين دوره السياسي المنوط به؟ عمه والطمع في العقد لابنه ألا يمكن أن يكونا وراء انغماس الوليد إن انغمس، ووراء تشويه صورته ليكون غير قادر على السياسة والحكم بنظر أولي الأمر؟
ويتابع د. فروخ الخبر بحياد «ولما توفي هشام سنة 125 هـ خلفة الوليد، والوليد هذا كان من فتيان بني أمية وظرفائهم وشجعانهم وأجوادهم وأشدائهم، منهمكاً في اللهو والشراب وسماع الغناء، مستهتراً بالمعاصي عاكفاً على اللذات منتهكاً للحرمات زنديقاً، فلما ولي الخلافة أمعن في ذلك كله وترك أمر الدولة، فساء الناس ذلك منه وأطمع به الطامحين إلى الخلافة فقتلوه سنة 126 هـ..
لم يكمل الوليد عاماً في الخلافة، لكن إشارات في هذا الخبر تستحق الوقوف عندها، فأنا أمام طامحين طامعين بالخلافة، قتلوا الخليفة، ما دور هؤلاء في إبعاده، والإساءة إلى صورته؟ وإن كان قد ساء الناس حقاً لخُلع وما قُتل! أليس القتل طريقاً لإنهاء ما يعجز عنه الآخر؟
وفي الخبر ثلاث كلمات تستحق الوقوف عندها: الشجعان والأجواد والأشداء، فهل من يملك هذه المواصفات يمكن أن يكون بذلك السوء الذي نقله أصحاب الهوى؟ ونلاحظ التناقض، مقابل الشجاعة والجود والشدة، استهتار بالمعاصي، انتهاك للحرمات! هل يفعل الجواد ذلك؟ أم إنها صورة أرادها خصومه الطامحون والطامعون؟!

الأخبار ودلالتها
قرأت الوليد وديوانه وأحببت شعره، وفروخ يصفه: كان الوليد شاعراً مجيداً في الخمر خاصة له فيها أشعار كثيرة أخذها الشعراء، فأدخلوها في أشعارهم أو سلخوا معانيها كما فعل أبو نواس والحسين الخليع بن الضحاك.. ولو قرأنا شعره عند نعي هشام نلمس تلك الفرحة، ويظهر الصراع الخفي إلى العيان:
طاب يومي ولذّ شرب السلافه
إذ أتانا نعي من بالرصافه
وأتانا البريد ينعى هشاماً
وأتانا بخاتم للخلافه
أين الشجاعة والجود والشدة في كل ما وصلنا من أخباره؟! لا وجود لشيء من ذلك، وهذا يصدّق قول من لا يثق بكتب التاريخ المخلصة للتاريخ، والذي ينعتها بأن من يكتبها الحكام والأقوياء، ومن المؤكد أن الوليد بعد مقتله من الطامحين لن ينصف، فأين دور جامعي الأخبار لإنصافه؟
جاء في أخبار عديدة اعتراض الوليد على استبداد حكام بني أمية، وهو شخص يطمح إلى شيء من حرية، وفي حياة قصيرة وخلافة أقصر شتم القسوة والاستبداد، فمن الطبيعي أن يتخلص منه خصومه.
وفي جلسة مع الصديق د. محمد شفيق البيطار كان يحدثني عن أهمية جمع الأخبار، وإجراء مقارنات، ذكر خبراً عن الوليد بن يزيد استرعى انتباهي فاستكبته، وأثبته، وهو إن دل فإنه يدل على صفات الشجاعة والحكمة، ولا يدل على استهتار وقصر نظر وانغماس كما صوروه.
«حدثني خالد بن كلثوم وغيره عن حماد الراوية قال: كنت عند الوليد يوماً فدخل عليه رجلان كأنهما كانا منجمين، فقالا:
قد نظرنا فيما أمرتنا به، فوجدناك تملك سبع سنين مؤيداً منصوراً، تستقيم لك الناس ويزكو لك الخراج.
قال حماد: فاغتنمتها، وأردت أن أخدعه كما خدعناه، فقلت: يا أمير المؤمنين كذبا، نحن أعلم بالرواية والآثار وضروب العلوم منهما، وقد نظرنا في هذا ونظر الناس قديماً، فوجدناك تملك أربعين سنة الحال التي وصفا.
قال: فأطرق الوليد ثم رفع رأسه إلي، فقال: لا ما قاله هذان يكسرني، ولا ما قلته يغرّني، والله لأجبين هذا المال من حِلّه جباية من يعيش للابد، ولأصرفنه في حقه صرف من يموت غداً».
عدا فكرة تحديد سنوات الملك من المنجمين ومن حماد، والذي لم يصح لكليهما، فقتل الوليد، إلا أن ما يلفت الانتباه، ويستحق التوقف عنده تعبيره (لأجبين المال من حله، ولأصرفنه في حقه) وفي هذا التعبير قمة الورع، فهو لا يأخذه إلا من حله، وقمة العدل فهو يصرفه في حقه، فهو على هذا لن يصرفه على ملذاته، ولن يكون مستهتراً بحق الناس وأموالهم المجباة.. ألا تستحق هذه الأخبار أن تناقش، وأن تكون في سيرة الرجل مع حياته مهما كان الخلاف معه عليها وعلى مجونها ولهوها؟
اصدع نجيّ الهموم بالطرب
والغم على الدهر بابنة العنب
واستقبل العيش في غضارته
لا تقف منه آثار معتقب
من قهوة زانها تقادمها
فهي عجوز تعلو على الحقب
أشهى إلى الشرب يوم جلوتها
من الفتاة الكريمة النسب
هذا هو الوليد الشاعر، الذي لا يخلو شعره من تزيّد في الرواية كما حصل في حياته، ولكن حياته كانت خاضعة لأمزجة الطامحين والطامعين، ألم يقل حماد أن نخدعه كما خدعناه؟! ولكن هل خُدع الوليد؟
شخصيات كثيرة في تاريخنا تحتاج إلى القراءة والتقويم، ولا يكون ذلك اليوم إلا من الأخبار المنثورة ومعالجتها، ويكفي أن يقف أحدنا عند مفارقة الصفات من شجاعة وجود وشدة وتنافرها مع الصفات المرذولة من انتهاك للحرمات وغيرها، ولعل دمج الحياة الخاصة بالحياة العامة، واختيار المؤرخين الذين اختارتهم السلطات من أهم عناصر التوفيق في تشويه الشخصيات، وجميعها ركز في السلب والإيجاب على صفات تجلب أو تنفر الآخر من هذه الشخصية أو تلك!
فهل كان الوليد بن يزيد شجاعاً نبيلاً أم منتهكاً مستهتراً؟
إنهما لا يجتمعان في رجل دولة..
ألا يشكل هذا الخبر وغيره من أخبار الحجاج وسواه فرصة لإعادة قراءة تفاصيل الخبر التاريخي؟ ألا يشكل دافعاً لكتابة التاريخ بعيداً عن الهوى والميول السياسية؟
أزعم أن شخصيات كثيرة ظلمها المؤرخون فقزموها، وأخرى تجاوزوا الحد في تمجيدها!
وما عشناه من تاريخ قريب، وما نعيشه، وما نقرؤه يؤكد أن الأقلام ليست ألسنة الحق، بقدر ما هي ألسنة الحقد والمصلحة!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن