قضايا وآراء

«يا نار كوني برداً وسلاماً»

| عبد المنعم علي عيسى

لم يكن السوريون قبل فجر 6 شباط بحال يمكنهم من احتواء «هزة» أياً تكن درجة حدتها على مقياس «ريختر» الذي يعرفه العالم والمنوط به قياس الشدة التي تأتي عليها «انزياحات» كهذه قدرية لا راد لها، فالأميركيون، ومعهم كل الغرب، كثيراً ما صدروا إليهم «الهزات الإرادية» التي كانت من صنع أياديهم، وهي في كثير منها كانت تفوق، من حيث شدتها على مقاييس «ريختر» السياسية والعسكرية والاقتصادية، شدة الزلزال الذي أصاب عمق البنيان السوري المتعب بفعل صنيع الغرب، ومن لف لفيفه.

قد تكون الضغوط التي تعرض لها الشعب السوري والدولة السورية، هي الأشد مما تعرض له أي شعب وأي دولة أخرى في العصر الحديث، ولربما كان تطبيق المزيد منها ناتجاً كردة فعل تستحضر التمسك واللحمة التي أظهرها هؤلاء في مواجهة تلك الموجات التي راحت تتوالى في رهان واضح على أن المزيد منها كفيل بتفتيت المزيد من الروابط وصولاً إلى تحلل الأنسجة، الأمر الذي قد يمهد، وفق الرؤية الغربية، لتلاشي التركيبة كفعل لا بديل منه لدخول المنطقة عصراً جديداً لطالما جرى العمل عليه قبيل عقود، وإن كانت الخيارات كلها قد فشلت لتعاود فكرة «مفتاحية دمشق» في التغيير المأمول، للظهور من جديد الأمر الذي كانت له حمولاته الخطرة على السوريين دولة وشعبا.

اصطنع الغرب، ومن شد أزره، فكرة «أصدقاء الشعب السوري» منذ بدايات الأزمة التي باتت على مشارف أن تتم عامها الثاني عشر، ثم راح يستسنخ منها طبعات وطبعات، فيما الهدف هو دق إسفين ما بين موالاة ومعارضة كفعل جرى الرهان عليه طويلا لتغييب فكرة «السورنة» التي راحت تقاوم وتقاوم، واضعة الجميع أمام حقيقة مفادها أن السوريين ليسوا بوارد التخلي عن صباغهم وهويتهم ومعهما كل الروابط التي راحت تشتد وتشتد لتخرج للعالم صورة غير قابلة للتأويل أو وضع مخارج لها، وإذا ما كانت حركة الطيران قد أظهرت تكاثف السموات التركية بأساطيل الدعم والإغاثة بعكس نظيرتها السورية التي خلت إلا مما رحم ربي، فإن السوريين ليسوا بحاجة لشحنات الغرب ولا دعمه، وجل ما يحتاجونه هو أن يكف هؤلاء «المتحضرون» والذين يسبقوننا على «سلم الإنسانية» عن مد أذرعهم الملوثة التي لم تتطهر سوى بدماء أبنائنا الزكية التي أضحت رخيصة في الأسواق بدرجة تضع كل المعايير الحضارية الغربية في مدارات الريبة والتسييس، والمشكلة أن العديد من الأشقاء والأصدقاء لا يزالون أفلاكاً في تلك المدارات، يدورون فيها من دون أن تبدو عليهم علائم «الدوخة» التي يستحضرها ذلك الفعل بالضرورة.

يروي رئيس الوزراء الأردني الأسبق مضر بدران، في مذكراته التي تنشرها جريدة «الشرق الأوسط» هذه الأيام، أنه زار دمشق في أعقاب غزو صدام حسين للكويت صيف العام 1990، للقاء الرئيس حافظ الأسد والطلب إليه «تأمين الأردن بالنفط في حال قطع النفط العراقي عن الأردن»، ثم يسهب في شرح التعقيدات التي وجد هذا الأخير نفسه فيها في خضم اتهامات الخليج للملك حسين بدعم وتأييد «فعلة صدام» وما ترتب عليه من قطع المساعدات الخليجية بشتى أنواعها، ويضيف إن الرئيس حافظ الأسد «أصدر على الفور أوامره لرئيس الوزراء حينها محمود الزعبي بتأمين احتياجات الأردن من النفط»، ثم يتابع بدران روايته فيقول: «في أحد الأيام منع وزير المواصلات السوري خروج الصهاريج المحملة بالنفط من العاصمة السورية إلى الحدود السورية الأردنية لاعتبارات خاصة تتعلق بآليات عمل الوزارة وتخديمها للسوريين كأولوية، فتحادثت مع الزعبي الذي اتصل بوزير المواصلات مبلغاً إياه أن الرئيس الأسد هو من أصدر القرار الذي يجب أن ينفذ أياً تكن الظروف والنتائج التي يمكن أن تترتب عليه».

قد يستغرق لملمة الجراح وقتاً ليس بقصير وخصوصاً أن «الأدوات» اللازمة للقيام بالفعل تبدو متعبة، لكن ما ينعش الآمال هذا التكاتف الشعبي الذي التف حول حكومته مبدياً تناغمه معها بدرجة بدت أكبر مما كانت عليه في السابق، وما ينعشها أيضاً رياحين الجزائر، والإمارات والعراق ومصر وروسيا وإيران ولبنان، التي كانت لجراحنا بلاسم روحية بغض النظر عن قيمها المادية.

شيء آخر نرى أن من المفيد قوله هو أن زلزال 6 شباط كان «سورياً تركياً»، ولربما كان ذلك مصادفة من شأنها أن تبرز من جديد حكم الجغرافيا وسطوتها، فـ«الفالق» الذي وضع حكم «العدالة والتنمية» بلادنا عليه قبيل عقد من الزمن أو يزيد، جنباً إلى جنب بلاده، يجب أن يكون محل تقييم الآن بعد أن قالت تلك الجغرافيا كلمتها الحاسمة، والراجح أن ثمة رؤية وازنة داخل قيادات ذلك الحزب ترى وجوب إجراء مراجعة شاملة تطول، فيما تطول، طبيعة العلاقة مع دمشق وآفاق تطورها، والراجح أيضاً أن تعطي «قراءة» الزلزال دفعاً قوياً لهؤلاء فيذهبون باتجاه إرسال المزيد من الإشارات الرامية لتقليص الزمن اللازم لكسر الحواجز التي لم يستغرق بناؤها وقتاً طويلاً وكانوا مهرة في إعلائها.

برداً وسلاماً لأرض الشام التي لم تصدر للعالم بأسره إلا السلام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن