قضايا وآراء

2015: عام التحولات الكبرى

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي

هناك أيام تمضي دقائقها كأنها عقود وأيام أخرى تمضي ساعاتها كلمح البصر من دون أن تترك أي أثر، ونستطيع أن نعتبر أيام عام 2015 المنقضي من الصنف الأول لأنه عام التحولات الإستراتيجية الكبرى بحق، فقد شهدنا خلاله أحداثاً كان يمكن أن ننتظر سنين طوالاً لنشاهد اكتمالها لكن العام الماضي اختصرها، وهي تغيرات ستلقي بآثارها لا شك على مسارات الصراع في منطقتنا والعالم لعقود قادمة.
لقد شهد العام الماضي توقيع الدول الكبرى في العالم (الخمسة+1) للاتفاق النووي مع إيران، وهو ما يترجم عملياً أول اعتراف من العالم والغرب بإيران قوة إقليمية كبرى لا بديل من حجز مقعد لها على أي طاولة تناقش عليها أي من ملفات تسوية الأزمات في المنطقة، وهو اعتراف استغرق من الغرب ثلاثة عقود من محاولات الحصار والعزل والتهديد بالحرب بل وشن الحروب بطريقة غير مباشرة على إيران بتمويل من الأنظمة الوظيفية الخادمة للإستراتيجيات الغربية في المنطقة، ولكنها كلها محاولات ذهبت أدراج الريح، بل شكلت في الواقع تحديات حفزت إيران على تطوير انجازات تقنية واقتصادية وعسكرية حولتها لقوة كبرى صاعدة ليس على مستوى الشرق الأوسط فحسب بل على مستوى آسيا والعالم، ولعل أهم نتائج النجاح الإيراني بالنسبة للشعوب العربية يكمن في تضاؤل القيمة الإستراتيجية لإسرائيل التي كانت تدعي في الماضي قدرة على تطويع المنطقة لمصلحة الغرب لكنها أخفقت في الامتحان عندما ثبت عجزها عن التصدي للمشروع النووي الإيراني، بل إن تجربة حروبها في جنوب لبنان وغزة برهنت عجزاً عن تحمل تكاليف الحروب مع منظمات بإمكانيات عسكرية أصغر بكثير من إيران، لقد كان جوهر الاتفاق النووي مع إيران مقايضة القنبلة النووية التي تأكد للغرب أن الإيرانيين أصبحوا قادرين (تقنياً) على إنجازها (ولو لم تكن واردة في خططهم) في أي لحظة برفع العقوبات الاقتصادية والعزل السياسي عن ذلك البلد التي ستتوافر له نتيجة الاتفاق موارد مالية ضخمة، وسيتحول بفضل ثرواته الطبيعية بجانب ما حققه من تطور اقتصادي وتقني وعسكري لقوة من عيار الدول الكبرى في العالم كألمانيا واليابان، وهو ما سيسمح له بمضاعفة دعمه لحلفائه الإقليميين في محور المقاومة الذين يقفون على خط القتال الأول مع خطر الإرهابين الصهيوني والتكفيري وهما الخطران اللذان تصنفهما القيادة الإيرانية في مقدمة ما يواجه أمنها القومي.
التحول الكبير الآخر الذي شهده الشرق الأوسط عام 2015 كان التورط الخليجي في حرب اليمن، وهي ورطة تشير مجريات الصراع الإقليمي والوقائع على أرض المعركة إلى أنها لم تأت مصادفة، لقد وظفت مشيخات الخليج وعلى رأسها السعودية الاحتياطات المالية الضخمة التي وفرتها لها عوائد النفط التي في خدمة المصالح الغربية الكولونيالية حول العالم تمويلاً لانقلابات ولانتخابات ولحروب استهدفت كل من يهدد تلك المصالح من الاتحاد السوفييتي ووريثته روسيا إلى إيران الثورة الإسلامية، كما تلاعبت بأسعار النفط عبر اتباع سياسة إغراق الأسواق وذلك بهدف إلحاق الضرر بالبلدين المنتجين للنفط، وبلغ الجموح السعودي ذروته مع العرض الذي قدمه الأمير السعودي بندر للرئيس بوتين بتأمين أولمبياد سوتشي الشتوي في روسيا من الإرهابيين مقابل تراجع روسيا عن الفيتو فيما يتعلق بالأزمة السورية في مجلس الأمن، ما عنى توجيه تهديد أمني شبه معلن لدولة عظمى، لذلك كان لا بد من تجريد السعودية وبقية المشيخات الخليجية من السلاح الوحيد الذي تمتلكه وتنشر بواسطته الخراب والإرهاب في العالم خدمة لأميركا، أي سلاح المال، وليس هنالك ما يمتص الفوائض المالية ويستنزفها أكثر من حروب الاستنزاف الطويلة، وهكذا مع وصول أمراء الجيل الثاني في السعودية لمراكز القيادة واتخاذ القرار، شنوا حرباً ستكون، كما يبدو، طويلة في اليمن، وهو ما يشبه الاستدراج الذي تعرض له صدام حسين لاحتلال الكويت عام 1990.
من الناحية الأخرى لم تمانع الإدارة الأميركية بتورط السعودية في حرب ستضطرها لابتياع المزيد من الأسلحة والقذائف وقطع الغيار الأميركية، ما يعني ضخ مليارات جديدة في عجلة الاقتصاد الأميركي، كما لم تتأخر الولايات المتحدة في تقديم كل مساعدة ممكنة للسعوديين عدا التدخل المباشر في الحرب، والذي سبق أن أعلمت الأنظمة الخليجية أنه لم يعد على جدول الولايات المتحدة لعشرين عاماً قادمة هي الفترة الضرورية التي يقدرها خبراء البنتاغون من أجل ترميم الأضرار التي تعرض لها الجيش والاقتصاد الأميركيان بسبب حربي بوش المجنونتين في أفغانستان والعراق.
لقد تخلى متخذو القرار السعوديون الجدد عن التحفظ الذي عرف به أسلافهم الذين حكموا السعودية خلال العقود السابقة، فأدخلوا مملكتهم ذات القدرات البشرية المتواضعة في حرب مباشرة في بلد ذي طبيعة وعرة وشعب فتي مقاتل يفوق عددياً مواطني الدول الخليجية مجتمعة، وذلك بعد أن اعتادت السعودية منذ حرب اليمن الأولى تمويل حروب لاستنزاف أعدائها من بعيد دون أن تكتوي هي بنارها، وكانت أول ثمار الحرب التي تورطت فيها السعودية تسجيل أكبر عجز في ميزانيتها للعام 2015 قدر بـ98 مليار دولار، ويبدو حصاد الخسائر السعودية مرشحا للتصاعد، مع انعدام فرص تحقيق أي نتيجة على الأرض ومع انتقال قتال الشوارع إلى داخل مدن السعودية الجنوبية نفسها، كما أصبحت الحرب مناسبة لتأكيد نجاح التكنولوجيا العسكرية الروسية في مواجهة الأميركية، حيث حصد صاروخ التوشكا السوفييتي القديم رؤوس قيادات الجيوش الغازية لليمن في مناسبتين، محققا دقة كاملة في الإصابة، ومتغلبا على الباتريوت الأميركي، ما دفع المحللين العسكريين حول العالم للتساؤل عن قدرات خلفه الأكثر حداثة وتطوراً (صاروخ اسكندر)، كما دفعهم للتساؤل حول الدعم اللوجستي والاستخباراتي الخارجي الذي يتلقاه الجيش اليمني وحلفاؤه من مقاتلي جماعة أنصار اللـه والذي مكنهم من تحقيق استهداف دقيق لقيادات العدوان لمرتين متتاليتين خلال فترة قصيرة.
التحول الإستراتيجي الثالث الضخم الذي شهدناه خلال عام 2015 كان التدخل العسكري الروسي إلى جانب الجيش العربي السوري في المعركة ضد الإرهاب، وهو تغير إستراتيجي لم يشهد العالم مثيلاً له منذ حاول الاتحاد السوفيتي التدخل عسكريا في كوبا خلال الستينيات ثم تراجع بتسوية مع أميركا، فروسيا لم تقدم على التدخل في ليبيا التي تمتلك ثروات نفطية ضخمة لا تمتلكها سورية، وهي كذلك اكتفت في ساحتها الخلفية (أوكرانيا) باستعادة القرم ولم تتدخل مباشرة في الحرب الأوكرانية، لكنها أقدمت على التدخل في سورية بعد أن حقق الجيش العربي السوري والدولة الوطنية السورية ثباتا على أرض المعركة لخمس سنوات كاملة، ما برهن لروسيا المهددة بمشاريع الناتو جدوى الرهان على شراكة مع الجيش والدولة السورية لمواجهة جيوش السلفية الجهادية المدعومة غربياً والتي ستزج في معارك أخرى حول العالم لو نجحت في سورية.
لقد حاولت وسائل الإعلام العربية التي يتحكم فيها المال الخليجي استغلال عملية الاغتيال الأخيرة التي نفذتها الطائرات الإسرائيلية للشهيد سمير القنطار من أجل التقليل من أهمية التدخل الروسي في سورية والتشكيك فيه، وهي بذلك لم تخرج عن نطاق دورها المكمل للعمليات العدوانية الإسرائيلية وهو الدور الذي اعتادت تأديته منذ حرب 1967، حيث استثمرت كل ما اعتبرته نجاحات عسكرية إسرائيلية من أجل الترويج لمنطقها السياسي المتسق مع إسرائيل وأمنها في وجه كل من يرفع شعار المقاومة في المنطقة.
في الواقع لم يكن في حسبان المقاومين يوماً العمل تحت غطاء جوي روسي أو غير روسي، لكن التدخل الروسي شكل (إضافة للقوة النارية التي قدمها في معركة الإرهاب) مظلة حماية جوية للجيش العربي السوري، وذلك بعدما قام به الإرهابيون خلال حرب السنوات الخمس الشرسة الماضية من استهداف لمنصات الدفاع الجوي السوري، فأصبح على إسرائيل الاستعداد للاصطدام مع روسيا إذا ما فكرت بالعدوان المباشر على وحدات الجيش العربي السوري دعماً للإرهابيين وهو ما اعتادت القيام به في مواقع عدة في فترة ما قبل التدخل الجوي الروسي، والأكيد أن لجم اليد الإسرائيلية وتقييد حركتها سيصب بالنتيجة النهائية في خدمة إطلاق المقاومة التي كان الشهيد القنطار يعد لها في الجولان.
لقد اختتم العام 2015 باستهداف شاحنات داعش التي كانت تسرق النفط السوري وتهربه لتركيا، وكذلك بالقضاء على أهم قيادات الإرهاب السوريين على الإطلاق (زهران علوش)، وهي نهاية معبرة عن قرار كبير اتخذه تحالف روسيا إيران ومن ورائهما حليفهما الصيني في منظمة شنغهاي، والذي يتلخص بتقديم دعم لامحدود للدولة والجيش السوريين بهدف قطع ذراع الناتو، وإيقاف لعبة افتعال الثورات الملونة والمسلحة حول العالم، ووضع حد لعربدة دعم المعارضين بالسلاح بهدف هز استقرار الدول التي لا تتوافق سياساتها مع المزاج الأميركي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن