ثقافة وفن

تراتيل للحب والحياة نصوص العقل والقلب للشيخ حسين شحادة … حين يجود الفقه بنفحات الإبداع الأدبية لتكون متنفساً

| إسماعيل مروة

ينظر إلى عالم الدين الفقيه في كل شريعة على أنه متخصص في التشريع، وينتاب الناس العجب إن قرؤوا لعالم في المسيحية أو الإسلام نصوصاً في الأدب، وذلك ليس جديداً، فمن الإمام الشافعي الشاعر المطبوع إلى عبد الله بن المبارك إلى الشريف الرضي، وإلى زماننا هذا كما كان الأمر مع الشيخ الدكتور مصطفى جمال الدين والشعر والغزل خاصة… والشيخ حسين أحمد شحادة شيخ معمم عاش في دمشق ولها سنوات طويلة، وفيها نشط إعلامياً ليؤدي دوراً توعوياً، فأصدر بجهده مجلة فكرية (المعارج) وشارك في الكتابة لعدد من الدوريات السورية، وقد كتب في «الوطن» مع بدايات صدورها عدداً كبيراً من النصوص، واليوم يصدر الشيخ الأديب حسين شحادة ثلاثيته الأدبية: تراتيل للحب والحياة- توءمة للروح والجسد- نفحات دمشقية. وقد صدرت هذه الأعمال عن دار عمران للطباعة والنشر بدمشق، وصدّر المجموعة بعبارة «هذه النصوص كتبت في دمشق على مدى عشرين عاماً» ففي دمشق كتبت ونشر أكثرها، وها هي ترى النور مجموعة في دمشق.

الغاية والمحاذير

في هذه المجموعة التي استهلكت عشرين عاماً من الإبداع الأدبي والشعري والوجداني من حياة الكاتب دلالة على عمق إحساسه العالي، وعلى نزوعه الأدبي الصوفي العالي الذي يتماشى مع الفقه والعمامة في حياته الدينية، ولكن هذا النزوع يحمل في طياته مشكلات كثيرة أدركها الشيخ الأديب، لكنه توجه إليها بوعي مطلق، ولم يتخلف عن نوازع روحه وتميزها، وهذا النزوع سبب له مشكلات كبرى، خاصة مع نوعية من العلماء الذين يفتقدون هذا الحس الأدبي، أو أولئك الذين يكتفون بالموقع والمكانة، ويعتزلون الحياة كرمى لحالة وهالة من الواقع الديني، وهذا ما أشار إليه الكاتب في مقدمته.

«ومن ظهور إلى خفاء، فتوجه النقد إليّ من سدنة الكهنوت الديني بذريعة لا تستريح إلى لغة عصية على السواد الأعظم من الناس! وانشغلت عن هذا الاعتراض المثير للجدل المستشري في بنية العلاقة بين الأدب والمجتمع. ولو وقف الباحث عن هويتي من داخل نصوصي الأدبية ومقالاتي الفقهية والفكرية لوجدني بعيد حالتين..، حالة كوني أديباً وشاعراً يمتح الكلمة من منبع القلب والوجداني، وحالة كوني عالماً بالدين، وداعية إلى تنزل الإيمان إلى منازل الحكمة والحوار.. بكلمة سواء».

بهذه المقدمة أجاد الشيخ حسين شحادة في التعبير عن نصوصه وأشعاره ووجدانياته التي لا تتعارض مع الفقه والدين، بل إن عمقه الفقهي والديني يمثل سبباً إضافياً في وصوله إلى أعماق الوجدان، وعندما يتحدث عن تراتيل الحب والحياة، فإنما ينطلق من رؤية عقيدية راسخة وثابتة، يهدف من خلالها إلى صلاح الإنسان، وإلى الاعتراف بالاختلاف بين الناس في مناهجهم وسلوكياتهم، ولكنه في الوقت نفسه يقدم رؤاه في الحياة والحب، ويشدو بتراتيله: ولنقرأ نصاً لا على التعيين بعنوان «بيروت سيئة الحظ»

وجاءها المخاض خجولاً وعجولاً
وجاءها آخر قيس ولم يعد
هي الآن متعة
وبيروت المصابة بسوء التغذية
تستعصي على الجوع
فتغلبها الأرقام الزنيمة
فتمدّ رجليها للغيلان
فاضت سرائرها لتنزفني
وفاض بي
بيروت ليست تشبهني
بيروت جائعة
تحمل رغيفها الطافح بالمرارة
وتهرب إلى مهجع أحلامها
مثلما تفعل المدن السبية

في هذا النص نجد تميز العالم الفقيه الأديب الذي وظف مخزونه وعلمه وموروثه لتقديم نص لائق من الصعب أن يقدمه أديب لا يملك هذه المعرفة العميقة.

الوفاء للمدن

عاش الأديب الشيخ في الشام ولها، وعشنا معه، وقضى سنوات وهو يبثها حبه ونشاطاته وحواراته وكتاباته، لذلك أعطاها جزءاً من هذه الثلاثية بعنوان «نفحات دمشقية» ليعلن حبه للمدينة، وارتباطه بكل ما فيها

أيها العابرون تحت سقف الموت
لي جنة يتبعها العاشقون
ولي قلب يتبعه القمر
وما من حجر يلوذ بي
إلا وانشقّ منه نهر الحياة
وما من لغة أيقظها الاشتقاق
إلا وعادت إلى أول كوكب
أنزلته السماء
من شرفة تؤنث الطفلة المرموزة
في وطن يصبو إليه الشرق
وينتظر
تولم عنا قيدها للحروب
وتصطاد طيورها الجائعة

بعبارات وجدانية مؤثرة، ودون خطابة وشعارات يقدم الأديب صورة ممزوجة بالعلم والفقه والأدب لما يجري في عناقيد الحروب للعاشقين الباحثين عن الحياة، ومن لم يعرف الشيخ الجليل قد لا يتوقع أن يجد بين دفتي هذا الغلاف تلك الصور البديعة والمحلقة في سماوات الإبداع.

وللروح مداها وفلسفتها

ويمشي بك الأديب في توءمة للروح والجسد، ليغوص في قضايا وجودية يصعب أن يتم اختصارها أو تلخيصها، وهي مادة مشتركة بين الإبداع والفقه، بين الشوق والصلاة والرمل والزبد، القيمة واللاقيمة، الوطن والانتماء والاستباحة:

نجية الروح

تماهى بعيني الشوق والصلاة
فاتحدي بي ليستيقظ الرمل والزبد
تحت وقع خطاي
ربما لا أكون غداً
يا وطني الوفي للبحر
وليس في البحر من أسلافي الغرقى سواي
ويداي تشتبكان في الماء المتفجر
من غضب التاريخ والشهوات المخبوءة
بأسرار الغزاة وتعاويذ السحرة

إن الغوص في عالم الروح الذي عاشه الكاتب الأديب في حياته الطويلة، واستهلك في كتابته أكثر من عشرين عاماً، وهو يبحر في عوالم غير مرئية يؤكد أهمية النهج الذي اختطه في حياته ومنهجه، والقائم بين الفكر والفقه والأدب والروح، في تأملات هي من المكانة بمكان سامٍ لا يدركه سوى عدد قليل ممن تزينت حياتهم بالحب للخالق والإنسان على حد سواء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن