ثقافة وفن

«هدنة»… البحث في الأسباب والنتائج وفيما وراء الكلمة وصولاً لحلّ…الخطيب: أردتها هدنة تؤدي إلى سلام دائم…الأزروني: لدينا مشكلة حقيقيّة اليوم تتجلى ببناء الغد

عامر فؤاد عامر: 

الانتظار هو البعد الأوّل الذي أرادته «هدنة»، فأنّ أنتظر يعني أن أتأمل، ما الذي يجري معي؟ وما الذي يدور حولي؟ وفي الانتظار توقٌ لملامسة جانبٍ من الماضي، وآخر من المستقبل، فأنا أجول في خفايا تخصّني؛ وأوصلتني للحظة الحاضرة، وفي الوقت نفسه أهتم لساعات سلامٍ قادمة، تدفع بي لبناء مستقبل الأيّام، والتي أعرف من خلالها أين أنا؟. هذا هو الميزان الذي أراده عرض «هدنة»، والذي خاض بالمتلقي بأن يعيش عصفاً من ذكرياته مع دمشق القديمة، هذه المدينة التي تهم أيّ إنسان عاش فيها، أو بالقرب منها، أو زارها، ولو لمرّة، أو سمع بها، فدمشق تعني: أنا، المتلقي، ويعني أنا، الابن السوري، ومن هنا قدّمت مسرحيّة «هدنة» إثارة لمشاعر بمواصفاتٍ جاءت بين البداية، والآنيّة، وتطلّع نحو المستقبل.

حكاية بسيطة
يروي العرض- باختصار- حكاية بسيطة عن مهندسٍ طموح، متخرج حديثاً في كلية الهندسة، ويلتحق بخدمة الوطن، الذي يتعرض لأزمة وحرب لا يمكن تجاهلها، بالتالي آمال هذا الشاب توقفت، لأنه في مكان لا يسمح له بتنفيذ أيّ شيء مما كان يحلم به وهو طالب، كبناء مسكنه الذي يشترك به مع حبيبته، وأثناء هذه المرحلة القاسية، يبدأ بتذكر مفاصل من حياته هو والحبيبة، وهي مفاصل أو صفحات لها علاقة بأهله وأهلها، وما نتج عن ذلك. والحكاية أيضاً هي همّ ووجع سوري يخصّ بمباشرةٍ أكيدة شريحة الشباب الذي تخلى عن كلّ ما يخصّه للالتحاق بخدمة الوطن والدفاع عنه، ومع مرور سنوات بدأت تتضح معالم الانتظار القاسي والصعب، لأن لغة الانتظار أصبحت تقاس بالسنوات، وهذا ينبئ بحسب هلع الإنسان، بأن الطموحات والرغبة في الإنجاز قد ضاعت أو على الأقل في مرحلة من التدهور. بين هذه الاختصارات سيعيش المرء لحظات تفكّر تجعله أكثر بحثاً عن أسباب التعب الذي جثم على كاهلنا، وهذا أحد الأبعاد التي رمى إليها العرض، فما وصلنا إليه لم يكن وليد مصادفة، بل هو نتاج واضح لأفكار وأعمال قام بها جيلٌ سابق لجيلٍ حالي، فهدنة هنا أصبح لها معنى أعمق من حيث الإشارة إلى أسباب المشكلة التي علق بها الإنسان السوري، فلا يمكن لوم أيّ جهة أو مؤسسة عشوائياً هكذا، بل يجب لوم دواخلنا، وما يؤلف أُسرنا، ومجتمعنا، لأن الجميع اشترك في جملة الأخطاء، والتي هي الأسباب التي أودت بشريحة الشباب أن يكونوا بهذا المكوث على الجبهة، مغادرين أحلامهم، وآمالهم الخاصّة.

في الأداء المسرحي
اجتهد الممثلون في تقديم ما يلزم من انسجام جماعي، ليخدم لغة النصّ والإخراج، ولا يمكن رمي الانتقادات السلبيّة جزافاً لأن في ذلك تطرفاً، فالجميع أدّى بمستوى جيد، إذا ما منحنا العرض علامة جماعيّة، ولكن الحقّ يقال إن الأداء الفردي لم يكن بنفس المستوى، وعلى سبيل المثال جماليّة المشاهد التي أدتها الفنانة «رنا جمّول» والفنان «جمال نصّار» وأقصد ما يخص المشاهد العاطفيّة التي مثلت الماضي، وأبناء جيل الآباء، إن صح التعبير كما وضّحت لنا المسرحيّة التي كانت أكثر إتقاناً للمشاهد التي قدمتها الفنانة «نسرين فندي» والفنان «يامن سليمان» اللذان يمثلان أبناء جيل الشباب الحالي، وعلى الرغم من العمر المتقدّم لدى «رنا وجمال» إلا أنهما جسداه كما لو أنهما يافعين وصغار في السنّ.
فيروز معنا

قبيل العرض كان لصوت فيروز حضور مهم بين الزائرين، ويبدو أن التركيز على جملة تؤديها في أغنيتها «أنا فزعانة» من ألبوم «بيذكر الخريف» هو المقصود المباشر، بدلالة انطلاق هذه الجملة مع ختام العرض، بعد صمت الممثلين وجمود الصورة الأخيرة المفتعل، والجملة تقول «أعطيني خمس دقايق بس، اتسمع عالموسيقا، موسيقا» أن في هذه الدعوة؛ ربطة جديدة لكلمة التأمّل التي بدأنا بها المقال، فالموسيقا اليوم هي اللغة المحفّزة للتأمّل، بعيداً عن أرق نفسي أصابنا من كثرة السؤال والجواب اللذين لم نعد نقتنع بهما كفايةً، وكأنّنا ننتظر في كلّ يوم إجابة جديدة مختلفة، وأسئلة أخرى مغايرة، على الرغم من أنّنا ندور في فلك مبسّط هو مرتبط في معادلة مفادها: «عالج السبب تجد نتيجةً تريحك»، وليس أفضل من الصوت الفيروزي لإيصال هذه الرسالة.

ثنائيات وعناصر
اعتمد العرض على ثنائية ناجحة في تركيب معظم العروض المسرحيّة، وهي الثنائية التي ربطت بين اثنين، وحبيبين، وحرب وسلام، وجيلين، ونعم ولا، ورجل وامرأة، وغيرها من الثنائيات المترابطة، لكن ما زاد عرض هدنة عمقاً؛ هو العناصر ما بين الثنائيات تلك، فالعنوان هدنة وهو بين الحرب والسلم، والانتظار هو مرحلة بين الذهاب والعودة، وشخصيّة عمار الصامتة الضاحكة، من بين الشخصيات المتحدثة، وتعليق خمس خشبات جامدة إلى شمال المنصة، ودلالتها، وغيرها من العناصر التي زادت من صورة جماليّة عميقة للعرض عموماً.

احتراف
في النص لعبة متقنة جاءت في ترتيب المشاهد، وتكاملت مع الرؤية الإخراجيّة، فهناك فلسفة لمزج الأحداث مع بعضها، بين فعل التذكّر، ورواية الممثّل للحدث، وبين الاصطدام بالواقع، واللحظة التي نعيشها، وهذا احتراف ناجح بدلالة انسياق الجمهور مع العرض، وتخيل دخول باب شرقي في دمشق القديمة، والأماكن التي ألفتها الذاكرة، وصيحات البعض في إرشاد الممثل إلى المكان الصحيح، فهناك تقنيّة نجحت هنا بين ثالوث (كاتب، ومخرج، وممثل).
النصّ وما يشبه

النصّ لـ«عدنان الأزرُوني» الذي وجهنا له سؤالاً عن الحلّ الذي وصلت إليه مسرحيّة هدنة فكان الجواب: « عمليّاً المسرح لا يقدم حلاً، ولا أيّ نوع من أنواع الفنّ يقدم حلاً، لأن المسرح، والفنّ ببساطة، يشير إلى المشكلة، ولا يقدّم حلولاً لها، أمّا الإشارة إلى بنيّة العرض كمنتج فني يقدّم، فلدينا أنواع، فهناك أعمال نهايتها مفتوحة، وأخرى مغلقة، أو بين الاثنين المفتوح والمغلق، ولا يسعني الوقت هنا للخوض في هذه الناحية، وأودّ الإشارة هنا في عملنا إلى التحدّث عن زمانين الأوّل هو زمن الآباء، والثاني هو زمن الأبناء، ومجموعة من المشكلات مرّ بها أبناء الجيل الأوّل، وما زالت تؤثر على أبناء الجيل الثاني، فكنت أبحث نوعاً ما عن الأسباب والنتائج، وبعمق وفيما وراء الكلمة». وعن كيفيّة إيصال المغزى الذي يرمي إليه العرض قال الكاتب «عدنان الأزروني»: «إن أيّ عمل فني تتم عملية التلقي فيه على مستويات حسب طبيعة وظرف النص، وليس المطلوب أن يفهم كلّ المتلقين المستوى نفسه، فهناك من يتلقى على مستوى أوّل وثاني وثالث وإلى آخره، وهذا مرتبط بحسب ما يملك المتلقي من إرجاعات ثقافيّة، لكن ما أردته من العرض أن تصل فكرة هي أنّنا لدينا مشكلة حقيقيّة اليوم تتجلى ببناء الغد، فهناك جيل كامل من الشباب توقف عند هذه اللحظة، فماذا نحن فاعلون؟ فمن الضروري التنبيه إلى أن هذه الأزمة لها ارتكاسات في الماضي، حاولنا البحث فيها، ومن الضروري أن ننبه في هذه الأزمة أن من ينجدنا هو الحب، فنحن بحاجة كبيرة لوجود الحبّ في حياتنا، وإلى وقفة مع الذات أولاً، وما هو الآخر الضدّ، كي نقف على حلّ محكه الأساسي هو مصلحة البلد». في بعض المقاطع هناك فلسفة للعب على المشاهد، ونسيانها، ثم العودة إليها فجأة، وقد ينتابنا فكرة أن هذا الأسلوب يتشابه مع أسلوب مبدعين آخرين، وعن هذه النقطة أجابنا «عدنان أزروني»: «إن لامست هذا الشيء أو لا فأنا لم أفكر به، فقد كتبت هذا النص والتقى المخرج مع مجموعة الممثلين لكل منهم ظرفه وطريقة عمله وصولاً للعرض النهائي، فأنا لا اهتم ماذا يشبه. وطريقة الذهاب لمشهد ونسيان غيره برأيي هي طريقة تعمق الهوية الواحدة ككل وتعشق المشاهد مع بعضها ونخرج بحكاية أكثر تكاملاً، وأنا عموماً أكتب شيئاً يشبهني وكما أفكر».

الإخراج ورؤية أخيرة
كان الإخراج لـ«مأمون الخطيب»، وعن تقنيّة العمل، والاجتهاد في اختيار الممثلين، والتعب وصولاً للصورة النهائيّة، يقول: «إن أغلب الممثلين في العرض كان بيني وبينهم اشتراك في أعمال سابقة جمعتنا معاً، فقد وصلت في عملي من عشرين عاماً حتى اليوم إلى مجموعة بقيت على وجودها معي بما يسمى (ansambel) بمعنى الفرقة، وأهم الشروط التي اعتني بها لانتقاء الممثل على الخشبة هي أن يكون من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية، أو من في حكمهم من الموهوبين السوريين، إضافة إلى الالتزام الدائم، والأخلاق المهنيّة المرتبطة بقواعد العمل المهني المسرحي، وحب المسرح وتفضيله على أنواع الفنون الأخرى، وهذا كلفني جهداً كبيراً للوصول إلى هذا العرض، والتحضير كان قرابة شهرين ونصف الشهر للعمل». ولدى سؤالنا للمخرج مأمون الخطيب بين قارئ ومنفذ للنص المسرحي، وعن كيفيّة الموازنة بين جوهر ما أراده الكاتب والرؤية الإخراجية قال لنا: «النقطة الأهمّ هي عدم خيانة ما أراده المؤلف من النصّ، لكن حتى بالاتفاق مع الكاتب «عدنان أزروني» اعتمدنا الارتجال، وإضافة مشاهد، وأسطر وأفعال بما يتوافق مع الرؤية الفنيّة للإخراج الأخير للعرض، وبما يلزم، لأنه في النتيجة ستكون المسرحيّة هي الرؤية الإخراجيّة الأخيرة للمخرج، وبالتالي لم يكن هناك أيّ تعارض بيني وبين الكاتب، فقد اشتغلنا بمهنيّة وعلميّة، وهو كان يتابع ويحضر البروفات، ويبارك ما نقوم به». أمّا الجواب عن الحلّ الذي قدمته هدنة فأضاف «مأمون الخطيب»: الحلّ هو بعكس ما يشاع عن معنى الهدنة، فقد أردتها هدنةً تؤدي إلى سلامٍ دائمٍ، لكي نكمل بناء أنفسنا، ولو بالحبّ، فقد أحببت الإضاءة على جيلٍ كاملٍ من شبابنا، الذي يفقد أحلامه، وأعماله مع مرور الوقت، بسبب الحرب، لأنه جيل متعلم ويحمل الموهبة، فكما رأينا هو مهندس لديه توق لبناء بيته، لكنه مضطر للمشاركة بالحرب، لكننا أردنا إنهاء الحرب بالهدنة، والخروج منها لسلام دائم لبناء سورية ومستقبلها».

النهاية
يذكر أن العمل يقدم في مسرح الحمرا برعاية وزارة الثقافة – مديرية المسارح والموسيقا، وراديو شام ( FM ) وهو من تمثيل: رنا جمّول، وغسان الدبس، ولينا حوارنة، وأسامة تيناوي، وجمال نصار، ونسرين فندي، ويامن سليمان. أمّا الموسيقا فكانت لطاهر مامللي، والسينوغرافيا لأحمد يوسف، والإضاءة لريم محمد، والأزياء لهشام عرابي والفوتوغراف ليوسف بدوي والغرافيك والملتيميديا لأمجد ممدوح بربور ومساعد المخرج رامي السمان ومدير المنصة عمر فياض والمكياج لريما عرابي والصوت لفؤاد عضيمي وتنفيذ الإضاءة لعماد حنوش وتنفيذ فني للديكور ليامن حمشو.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن