على الرغم من مرحلة التفاؤل التي شهدتها المنطقة بعد نجاح الصين مطلع العام الحالي في تخفيض مؤشرات الاستفزاز المتصاعدة بين السعودية وإيران وتوج بلقاء بين وزيري خارجية البلدين في العاصمة بكين، بعد إنجاز اتفاق في العاشر من آذار الماضي وقّع عليه مستشار الأمن الوطني السعودي مساعد بن محمد العيبان وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، تضمن خريطة طريق لتحسين العلاقات الثنائية وإعادة افتتاح السفارات، إلى جانب تسارع الحراك العربي باتجاه سورية والذي تكلل بقرار إعادة سورية لشغل مقعدها في جامعة الدول العربية وحضورها لقمة جدة بأعلى تمثيل سياسي رسمي، إلا أن منسوب هذا التفاؤل ما لبث بالتراجع، ولاسيما في ظل التطورات والأحداث التي تشهدها المنطقة من عودة التجاذبات الشاحنة بين أطرافها والدور الغربي وخاصة الأميركي منه في استهداف أي استقرار لا يتناسب مع مصالحها الجيواستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
التفاؤل الحذر الذي مرَّ على المنطقة فترة وجيزة لم تتجاوز مدتها أشهراً قليلة، عكس حقائق ومؤشرات عدة من أبرزها:
– دور العامل الخارجي في التأثير في مراكز صنع القرار داخل العديد من العواصم وامتلاكها القدرة على تغيير مجرى السياسات والعلاقات الناشئة والمتطورة.
– وجود ملفات خلافية شائكة ومتجذرة تحتاج إلى إرادة مستقلة لحلها، لا تقتصر على مجرد مؤتمرات أو اجتماعات أو زيارات متبادلة.
– تصدع العلاقات القائمة وعدم قدرتها على التمتع بالمرونة السياسية لتجاوز الملفات الخلافية من خلال إعلاء المصالح وتحقيق الاستقرار على مختلف المحاور.
الحقائق هذه ما هي سوى جزء يسير من المعطيات التي لا يمكن إنكارها من أحد سواء من حيث ضعف الثقة، وسهولة التأثير، وتوتر العلاقات، وإعلاء المصالح الشخصية قبل القومية والوطنية وغيرها الكثير من الثغرات المتوافرة.
وبالعودة لأبرز الدلائل على عودة مسارات التصعيد والتشابك الإقليمي وعدم القدرة على الحفاظ على هذا التفاؤل مدة طويلة أو الانتقال به إلى مرحلة أكثر نضوجاً، رغم عدم وجود تصريحات رسمية حتى إعداد هذا المقال تؤكد فشل مسار التسويات الذي شهدته المنطقة، إلا أن التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية العسكرية أكدت ذلك، إذ يمكن سرد أبرز هذه الدلائل وفق الملفات الآتية:
أولاً- الملف السوري: شهد هذا الملف تطورات ميدانية عسكرية وسياسية سارت عكس ما كان مأمول به على مختلف المستويات، إذ لا يمكن إنكار الدور الأميركي المعطل لأي حراك سياسي وعسكري من شأنه دفع عجلة الحل قدماً، فمن الناحية الميدانية العسكرية تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتحقيق أهداف عدة أبرزها تكمن في:
– ترسيخ وجودها العسكري في سورية ضمن توجهات واشنطن للحد من توسع النفوذ العسكري والسياسي الروسي وتوسيع دائرة الصراع معها في إطار ما يخوضه الطرفان من صراع يتصل بطبيعة النظام الدولي، وقطع الطريق الواصل بين العراق وسورية.
– فرض التقسيم الجغرافي لسورية كأمر واقع من خلال وجود الاحتلال الأميركي بشكليه المباشر وغير المباشر المتمثلة بميليشياتها العسكرية المختلفة ومحاولة الدمج بينها بما يراعي ما تتذرع به تركيا مخاوفها الأمنية.
– استمرار سرقة الموارد والثروات السورية ومنع الاستفادة منها لتحقيق إعادة الإعمار، بهدف فرض الحصار الاقتصادي على سورية واستكمال خنقها في هذا المجال.
أما على المستوى السياسي، فقد لوحظ بالآونة الأخيرة ولاسيما منذ زيارة وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى سورية بداية تموز الماضي، تراجع زخم الحراك العربي باتجاه سورية، إضافة إلى برودة المباحثات التركية- السورية بهدف إعادة مسار العلاقات الثنائية بينهما بعد نجاح رئيس النظام التركي رجب أردوغان وحزبه في تكريس هيمنتهم على السلطة واللقاء الذي جمع الأخير مع نظيره الأميركي جو بايدن في مؤتمر ميونخ وتبادلهما عبارات مفعمة بالغزل الدبلوماسي.
وبالتالي يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية تستغل الملف السوري لإبقاء حالة التوتر قائمة في المنطقة لأسباب مختلفة، إذ سعت من خلال تعطيل التوصل لصيغة توافقية في مجلس الأمن حول إدخال المساعدات الإنسانية، وممارسة الضغوط على سورية من خلال المبادرة العربية وزيادة الحصار الاقتصادي عليها، وعودة سياسية تطويق إغراء تركيا بالوعود والانفتاح الاقتصادي، إلى جانب حصول تحركات عسكرية مريبة في الجغرافيا الممتدة من التنف إلى غرب مدينة إدلب مروراً بشرق الفرات بهدف إبقاء حالة عدم الاستقرار هي السائدة إن لم نقول كمحاولة أميركية لخلط الأوراق داخل الملف السوري.
ثانياً- الملف اللبناني- الفلسطيني: حيث ارتبط هذان الملفان ببعضهما خلال الفترة الماضية بشكل واضح، فالتزامن بين الضغوط الإسرائيلية على لبنان بهدف دفع الحكومة اللبنانية للقبول بترسيم الحدود البرية، وانفجار الاقتتال الذي شهده مخيم «عين الحلوة» بين القوى الفلسطينية، حدثان مرتبطان عضوياً، هدفهما إبقاء حالة التشرذم الداخلي قائماً في لبنان وفلسطين لإدخال حركات المقاومة في دائرة الحروب الداخلية واستنزافهما في توقيت يمر به الكيان الصهيوني بأزمة داخلية نتيجة إقراره تعديل التشريعات القضائية.
ثالثاً- المصالحة الخليجية – الإيرانية: إذ بعد أن شهدت المنطقة ما يمكن تسميته «تنفس الصعداء» مع التقارب السعودي الإيراني، والاتفاق على افتتاح السفارات بين الدولتين، إلا أن التوتر ما لبث أن يعود للواجهة مجدداً، بسبب الخلاف الذي طفا على طاولة المشهد السياسي مؤخراً حول ملكية حقل الدرة للغاز، وهو ما يطرح تساؤلاً مصحوباً بتعجب حول طرح هذا الخلاف بهذا التوقيت والهدف من ورائه، بالتزامن مع تسريبات كشف عنها موقع «المونيتور» الأميركي عن صفقة أميركية سعودية للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي بشرط منح الفلسطينيين حقوقهم، وفق الموقع، وهو ما قد ينسف التقارب السعودي الإيراني بالمطلق إن صحت هذه التسريبات.
رابعاً- التطورات العسكرية والتهديدات المتبادلة: أيضاً من النقاط الواضحة في سياق التصعيد الإقليمي، هو حصول تطورات عسكرية ملحوظة ولاسيما من الولايات المتحدة الأميركية، سواء من حيث زيادة اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، أو إعادة تمركز قواتها في المنطقة، أو من حيث زيادة قوام قواتها وتعزيز أسطولها الخامس بثلاثة آلاف جندي وبوارج حربية بذريعة «حماية الممرات المائية في الخليج العربي من الخطر الإيراني المتمثل بخطف ناقلات النفط»، إلى جانب التصعيد الناعم بين سلاحي الجو الروسي والأميركي في السماء السورية، وإعادة تحريك تنظيم داعش لاستهداف القوات الحكومية السورية في المناطق التي تسعى واشنطن لاحتلالها.
من المؤكد أن النظام الإقليمي اليوم في حالة عدم استقرار وقد يشهد اختلالاً بالتوازن القائم، بشكل قد لا تحمد عقباه على الجميع، وهو ما يضعنا أمام عدة سيناريوهات أبرزها:
السيناريو الأول: يتمثل في مساعي إدارة بايدن الديمقراطية لتحقيق أهداف خارجية ضد روسيا ومحور المقاومة والصين قبل نهاية العام لتوظيفها في سباق الانتخابات الرئاسية.
السيناريو الثاني: يكمن في أن هذا التصعيد مجرد وسيلة لدفع الأطراف المختلفة لتحسين موقعها التفاوضي على طاولة الاتفاقات السياسية، ولاسيما بين واشنطن وموسكو حول الملفات التصارعية، وواشنطن وطهران حول الملف النووي، وواشنطن وبكين بخصوص مسألة النفوذ والاقتصاد.
السيناريو الثالث: يتجلى في التوجه لإبقاء النظام الإقليمي والدولي في حالة اضطراب وعدم استقرار وتوتر من شأنه استنزاف مقدرات الجميع على غرار ما حصل أثناء الحرب الباردة.