ثقافة وفن

منحوتات تدمر في اللوفر

د. علي القيّم: 

يعد متحف اللوفر الباريسي، أكبر متحف في العالم، وقد أتيحت لي زيارته مرات عدّة، في فترات متباعدة، وكنت في كل مرة، أزور قسماً منه لأن مساحته وصالات معروضاته الضخمة، التي تحوي آثاراً متنوعة لا تحصى، من المستحيل زيارتها والاطلاع عليها في زيارة واحدة، كما أن القسم الكبير من هذه المقتنيات التي تم استقدامها من أنحاء الوطن العربي كافة، طوال سنوات القرنين، التاسع عشر والعشرين، كانت تدعوني للتوقف طويلاً والسؤال، لماذا لا تطالب الدول العربية باستعادة هذه الآثار التي هي جزء من هويتنا وحضارتنا، وفنوننا القديمة. وكنت أستغرب عندما يأتيني الجواب: إن أكثر الدول العربية لم تطالب باستعادة هذه الآثار، وإن أكثرها خرج منها بطرق شرعية، وليس تهريباً، كما يحلو لنا أن نقول في بعض الأحيان.
القسم الشرقي من متحف اللوفر يشهد على تنوع ثقافي مذهل للحضارات في وادي الرافدين، ومصر القديمة وبلاد الشام، حيث تطالعنا تحف ومنحوتات وكتابات وأدوات وقطع أثرية جاءت من أوغاريت (رأس الشمرا) وماري (تل الحريري) وصيدا وعمريت وجبيل وجنوب سورية، وأفاميا ومدينة تدمر، التي أتوقف عندها، لأنني عثرت في باريس على كتاب مهم عنوانه «آثار تدمر في متحف اللوفر»، وقد صدر عن إدارة المتاحف الوطنية الفرنسية، وقام بكتابة أبحاثه فريق مؤلف من «ميشال جاوليكوفسكي» و«جاكلين فيدي» و«جافي تيكسيدور» ويقسم الكتاب إلى قسمين، الأول يتناول تاريخ تدمر السياسي والاجتماعي، ويضم فصولاً حول الكتابة التدمرية والطقوس الدينية، والثاني، يضم دراسة مفصّلة لأبرز المنحوتات والقطع الأثرية التدمرية الموجودة في متحف اللوفر.
يبلغ عدد المنحوتات التدمرية في اللوفر «92» منحوتة يعود تاريخها إلى القرون الأولى بعد الميلاد، وقد حصلت إدارة المتحف على القسم الأكبر منها قبل وخلال مرحلة الانتداب الفرنسي على سورية، وتبدأ من مجموعة النقود التدمرية التي جمعها عالم المسكوكات «فيليسان دي سولسي» (1807- 1880م) وعند نهاية القرن التاسع عشر، تهافت هواة جمع الآثار الشرقية القديمة على المنحوتات التدمرية، وصارت بيروت واستانبول محطتين أساسيتين للحصول عليها، وكونت مجموعات نادرة ما لبثت أن دخلت متحف اللوفر.. ويعد هذا الكتاب، أول دراسة متكاملة عنها، حيث تشير إلى أن جميع المنحوتات التدمرية في اللوفر، مصدرها المدافن، وهي تعكس الدور المهم الذي لعبه هاجس الموت والخلود في حياة التدمريين، ويعد النحت المدفني، إلى جانب العمارة، أهم فن عبّر من خلاله النحاتون عن معتقدات التدمريين وعلاقتهم بفكرة الموت، التي كانت تحتل حيّزاً أساسياً من نشاطهم اليومي، ما أدى إلى نشوء صناعة كاملة تهيئ للإنسان ما يحتاجه في الحياة الأخرى مثل الشواهد والقبور، وحتى اليوم تم العثور على أكثر من مئة وخمسين مدفناً موزعة خارج جدران مدينة تدمر، باتجاه الشمال والغرب والجنوب، أي حول المدينة باستثناء الناحية الشرقية حيث توجد الواحة، وقد عثر على نماذج متنوعة من المدافن الفردية والجماعية، وكان البرج الجنائزي، المفضّل لدى التدمريين، وقد شيّدت معظم الأبراج الجنائزية في تدمر خلال المرحلة الممتدة من العام التاسع قبل الميلاد، حتى نحو مئة وثلاثين بعد الميلاد، أما خلال النصف الثاني من القرن الثاني وخلال القرن الثالث، بعد الميلاد، فقد درجت عادة بناء المدافن التي تأخذ شكل المعابد من دون أن يؤدي ذلك إلى التوقف عن بناء الأبراج الجنائزية… وكانت المنحوتات تمثل جزءاً أساسياً من منحوتات المدافن، وهي إما تماثيل نصفية للمتوفى، وإما منحوتات ذات طابع عائلي تصور صاحب المدفن مع عائلته، وغالباً ما يبدو صاحب المدفن كسيد مستلق على سرير فخم وحوله زوجته وأولاده، وأطلق مؤرخو الفن على هذا النوع من المنحوتات اسم «مشهد الوليمة أو المأدبة الكبرى».
في منحوتات الفن التدمري في متحف اللوفر، يدرك المشاهد ملامح شرقية سورية طالعة من تقاليد فنية قديمة موغلة في القدم، بعيدة عن تأثير الفن اليوناني- الروماني، وتتجسد هذه الملامح في مجموعة من الصفات التي تجعلنا نميّز على الفور المنحوتة التدمرية عن المنحوتة الرومانية، وأولى هذه الصفات هي طريقة نحت الوجوه، التي لا تهتم بتجسيد التعابير والملامح والانفعالات الشخصية، بل تركز على العيون الكبيرة، التي تحدّق في المطلق… لقد ابتعد الفن التدمري عن تجسيد الواقع على الطريقة الرومانية، فلم يلتزم مبدأ محاكاة الطبيعة، وغالباً ما بدت مقاييس النساء والأطفال غير طبيعية، ويُظهر الفن التدمري تعلقاً واضحاً بالعناصر الزخرفية التي تتجسّد في أسلوب نحت الثياب والحلي ذات الأشكال الهندسية، وهذا الجانب الزخرفي صفة أساسية من صفات الفن السوري القديم، الذي كان منذ بداياته الأولى يهجس بالحركة الداخلية وتحيط به هالة من الصمت والقداسة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن