ثقافة وفن

المنسوجات الدمشقية قطعة من الإبداع السوري .. الدامسكو والبروكار… آية في الروعة وثقافة مدينة وحفاظ على الهوية

| منير كيال

بلغت دمشق شوطاً متميّزا في منسوجاتها، فكانت شهرتها كبيرة في هذا المجال، وقد حدثنا عنها الإدريسي خلال زيارته لدمشق في مطلع القرن السادس للهجرة بقوله: «مدينة دمشق جامعة لصنوف من المحاسن، وضروب من الصناعات، وأنواع من ثياب الحرير، كالخزّ والديباج النفيس الثمين العجيب الصنعة، العديم المثال، الذي يحمل من دمشق إلى كل بلد، ويتجهّز منها إلى كل الآفاق والأمصار، المصاقبة لدمشق، والمتباعدة عنها ومصانعها في ذلك عجيبة، فهي تضاهي ديباج الروم، وتنافس أعمال أصفهان، وتشفّ عن أعمال نيسابور، من جليل ثياب الحرير. وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النّفيسة، فلا يعادل ذلك جنس..».
كما حدثنا عنها أبو البقاء البدري بالقرن التاسع من الهجرة بقوله:
«.. ومن محاسن دمشق ما يصنع بها من القماش، على تعدّد نقوشه وضروبه ورسومه، ومن ذلك القماش الأطلس، بكل أجناسه وأنواعه، والقماش الهرمزي على اختلاف أشكاله، وتباين أوصاله، ومنها أيضاً القماش السابوري بجميع ألوانه، وحُسن لمعانه فضلاً عن صناعة الحرير بالفتل والدواليب والسرير.
وقد ساعد موقع دمشق على بلوغ هذه المدينة هذه الشهرة في صناعة المنسوجات، وما قد يتفرّع عنها… الأمر الذي سهل لدمشق الوقوف أمام مزاحمة المنسوجات الأخرى من العالم القديم.

دمشق الهند الصغرى
تركزت أنوال النسيج بحيّ القيمرية الذي كان يطلق عليه اسم الهند الصغرى، لكثرة ما كان بهذا الحيّ من أنوال النسيج، كما تركز وجود هذه الأنوال بحي الشاغور وحيّ ركن الدين بدمشق وقد تصدى العاملون في مجال النسيج وتسويقه بدمشق لغزو المنسوجات الأوروبية بالقرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وأبدعوا أنواعاً من النسيج لاقت رواجاً بالأسواق المحلية والأسواق المجاورة، وأصبح السياح القادمون إلى دمشق يسارعون إلى اقتناء أطاريف من المنسوجات الدمشقية التي كان من أهمها نسيج البروكار والدامسكو، وكذلك الدّيما والألاجا والأغاباني.. لما لهذه المنسوجات من شهرة عالمية… حتى إن من أولئك السياح من كان يعتقد أن المنسوجات السورية عامة والدمشقية خاصة التي كانت تعرض في المعارض الدولية بأوروبا، إن هذه المنسوجات، إنما هي نماذج من تقنيات المتاحف، وكم كانت دهشتهم كبيرة عندما شاهدوا بأمّ أعينهم، أن هذه المنسوجات بالتداول، وأن لكل إنسان أن يقتنيها ويجعل منها ملابس له ولمن يريد… وإذا اقتصرنا بهذا البحث على نسيج البروكار، فإن من الممكن القول، إن البروكار نسيج من الحرير البلدي الذي يعتمد على شرانق القزّ التي تربّى بالكثير من المناطق السورية.
البروكار صفاء المدينة

يعتمد في نسيج البروكار على النول اليدوي التقليدي، ذلك النول الذي يوفر للبروكار دقة اللحمة والسدي، فيأتي النسيج رقيقاً ناعم الملمس، مقاوماً، هفهافاً، يصعب نسجه على النول الآلي، الذي لا يوفر للبروكار، هذه المزايا، كما أن النول الآلي يفتقد حنان حركة المكّوك اليدوية، وتعدد ألوان رسوم الجاكار التي تتطلبها الأسواق العالمية.
وبالتالي فقد استطاعت منسوجات البروكار، أن تلبي الأسواق والأذواق المعاصرة، بالأزياء والديكور والمفروشات للصالونات وردهات الاستقبال الكبرى والمنتديات، فضلاً عن الحاجات النسائية من فساتين وإيشاربات وشنط، وربطات عنق للرجال، وكذلك الستائر والمفروشات.
وقد كان للبروكار الدمشقي شهرة عالمية على مدى قرون حتى وصلت إلى القصر الملكي في بكنغهام في بريطانيا، حيث طلبت ملكة بريطانيا اليزابيت الثانية أن يكون ثوب زفافها من البروكار الدمشقي الموشّى بالذهب والفضة، وكان ذلك عام 1947م.
وهذا البروكار نسيج من خيوط تحيك نفسها بنفسها، وهو من الحرير الطبيعي، ومن هذا البروكار ما يدخل في نسيجه خيوط دقيقة من الذهب الخالص أو الفضة، على أشكال رسوم الطيور والغزلان والراقصات، ويتطلب هذا النسيج جهداً ووقتاً، على النول التقليدي اليدوي، حتى أن الصانع الماهر ينزل بحفرة النول التقليدي يعمل طوال نهاره ينسج نحو متر واحد من نسيج البروكار، والعامل في هذا كله لا يملّ ولا يكلّ وهو يعمل بدأب ليمتع ناظريه بما يمتد أمامه نسيجاً يأخذ بالألباب.

الزخارف اليدوية الثمينة
وقد كانت الزخارف والنقوش التي في نسيج البروكار: تُغل غلاًّ بالإبرة يدوياً وبعد نشوء صناعة النسيج الآلية الحديثة تطورت أساليب زخرفة نسيج البروكار بالذهب والفضة، بدأ ذلك على الأنوال الميكانيكية التي تنسج البروكار من الحرير الصناعي، ولم تلبث هذه الطريقة أن طبقت على النول التقليدي وبالحرير البلدي.
بين البروكار من الحرير البلدي وبروكار الحرير الصناعي:
كان من أسباب استخدام النول الميكانيكي في إنتاج نسيج البروكار، كثرة الطلب على هذا النسيج، لكن ذلك كان مدعاة لتراجع إنتاج البروكار الخالص من الحرير الطبيعي المطعّم بالذهب والفضة.. لأن البروكار المنتج آلياً، لا تتوافر فيه جميع الميزات التي يقدمها بروكار النول التقليدي اليدوي، فالنول الميكانيكي يتطلب خيطاً متيناً، أثخن من خيط النول التقليدي بنحو ثلاث مرات، حتى يمكنه أن يتحمل ضربات مكّوك النول الميكانيكي، فكان لا بُدّ من استخدام الحرير الصناعي للنول الميكانيكي، وبالتالي فإن البروكار المنتج على النول الميكانيكي أكثر سماكة من البروكار المنتج على النول اليدوي التقليدي من الحرير البلدي (الطبيعي). فضلاً عن ذلك، فإن بروكار النول الميكانيكي، غير مرغوب بالأسواق العالمية، ولا يُقبل عليه السياح بالموازنة، مع بروكار الحرير الطبيعي كذلك فإن السيدات بدمشق يفضلن بروكار الحرير الطبيعي، ولعل مردّ هذا كله يعود إلى أن البروكار المنتج على النول الميكانيكي من الحرير الصناعي، يفقد أكثر من نصفه لدى بلّه أو غسله، ولأن هذا الحرير الصناعي يكرنش (يتجعد) بعد غسله، وبالتالي يصبح أكثر سمكاً بنسبة (50) بالمئة.

الأنوال الميكانيكية
وفي الوقت نفسه، يمكن القول إن انتشار بروكار الأنوال الميكانيكية من الحرير الصناعي يعود إلى رخص أسعار هذا البروكار الصناعي بالنسبة لبروكار الحرير الطبيعي المنتج على النول اليدوي التقليدي، كما أن نسبة الهدر بخيوط الحرير الصناعي على النول الميكانيكي أقل منها بالحرير الطبيعي على النول التقليدي، وهذا يجعل للبروكار المنتج على النول التقليدي اليدوي مكان الصدارة، على جميع المستويات المحلّية والأسواق الخارجية على الرغم مما كان يواجهه البروكار من الحرير الطبيعي من معوقات، وخاصة ما كان من عدم كفاية الحرير الطبيعي لعمل الأنوال اليدوية التقليدية كما واجه البروكار الطبيعي نقصاً في عدم كفاية أهل الخبرة الممارسة على النوال التقليدي، بسبب الحروب والأزمات التي كانت تعصف بالبلاد في فترة ضعف الدولة العثمانية.

أنواع البروكار وزخارفه
البروكار أنواع تختلف باختلاف المواد المستعملة مع الحرير في عملية النسيج، فمن البروكار ما هو عادي (سادة) ألوانه بالأذواق وبحسب الطلب على كل من هذه الألوان، وهذا يختلف بين دولة وأخرى، ومن البروكار ما هو مقصف بخيوط ذهبية أو فضيّة. وقد تكون هذه الخيوط من معدني الذهب والفضة، ودور هذه الخيوط ينحصر بالرسوم وأشكال البروكار التزيينية، وتشمل هذه الرسوم أشكالاً آدمية وراقصات، ومنها ما هو نباتي أو حيواني، كالفيل والغزلان والطيور، وقد تجتمع هذه الرسوم في مهاد نسيج واحد، فتكون الرسوم متعددة المواضع، حتى إن المرء قد لا يستطيع تمييز ذلك إلا بجهد… كما قد تكون رسوم البروكار ونقوشه مُبسطة والموضوع الرئيسي لهذه الرسوم واضح.
الدقة حاجة للبروكار
وقد كانت الرسوم تنفذ على القماش بالإبرة، وبأسلوب الغل ثم اتبعوا أسلوب بطاقات الجاكار، وهي عملية معقدة ترتكز على الدقة المتناهية، فهم يرسمون الشكل أو الطير أو العرق النباتي على ورق ميليمتري.. ثم يطبقون الرسوم على ألواح كرتونية مثقبة حسب الشكل بالجاكار… وينفذ ذلك على القماش من خلال عملية معقدة تحتاج إلى دقة متناهية.
أما رواج البروكار، فيمكن أن يرتبط باستقرار البلاد، فالاضطرابات والأحداث السياسية، تنعكس سلباً على رواج البروكار، لما لذلك من تناقص في عدد السياح القادمين إلى البلاد، وبالطبع تلك الاضطرابات والأحداث السياسية، قد تؤثر كثيراً على رواج البروكار واستعمالاته في البلاد المنتجة، ونذكر على سبيل المثال أن أحداث المنطقة العربية بعد تأميم قناة السويس، أثرت تأثيراً كبيراً على رواج البروكار، فقلّ الطلب وتكدس الإنتاج وانخفضت الأسعار، وبالتالي سادت البطالة بين العاملين في نطاق البروكار.

الدامسكو وشي الحب
إذا انتقلنا إلى نسيج الدامسكو، فإن من القول أن المقصود بالدامسكو هو القماش المعروف باسم الوشي، وكلمة دامسكو مشتقة من اسم مدينة دمشق، بعد أن نقل العرب نسيج الوشي إلى الأندلس، فعرف الوشي باسم الدامسكو. وهذا الدامسكو ينسج من الحرير الطبيعي أو الصناعي، وهو موشى برسوم الغزلان والفرسان والصيادين والطرائد والأشجار والزهر والثمار… وقد كان على أنواع عديدة النقوش والرسوم ومن أنواعه: الأطلس والثابوري والهرمزي، والمنيّر والمعيّن والمسّهم… وقد اشتهرت هذه الأنواع بدمشق فعرفت بها وأطلق عليها اسم الدامسكو.
وهذا الدامسكو كالبروكار، من المنسوجات التي تميزت بها مدينة دمشق منذ القرن الحادي عشر، وكان يطلق عليه اسم: البتة عندما كان عرض قماشه (100) سم أما الآن فقد أصبح منه ما هو بعرض (220) سم.
كان نسيج الدامسكو ينسج في أول الأمر من الحرير الطبيعي على أنوال تقليدية، وهذه الأنوال يختلف عدد دوساتها حسب ألوان القماش. أما عرض القماش فهو بحسب الرسوم التي يتبع لها عدد سنانير النول، وقد كانت تلك الرسوم تُغل غلا كما هي الحال برسوم نسيج البروكار.
وفي جميع الأحوال فقد تطور هذا النسيج حتى أصبح في مقدور النساج المعاصر لنسيج الدامسكو تلبية الأذواق المعاصرة في شتى مجالات المفروشات والستائر وبعض الملابس. بما لهذا النسيج من نكهة دمشقية أصيلة. مما كان له أكبر الأثر، في حرص زوار دمشق والسياح الأجانب على ابتياع طرف من هذا النسيج هدايا لبلادهم.. تذكرهم بعبق دمشق وأصالتها بالمنسوجات.

الألاجا والدّيما والأغباني
وكان من المنسوجات التي اشتهرت بها سورية عامة، ودمشق خاصة، المنسوجات الحريرية القطنية المعروفة باسم الألاجا، والمنسوجات القطنية المعروفة باسم الديما، وكذلك المنسوجات القطنية الموشاة والمطرزة بالحرير التي يطلق عليها اسم الأغباني.
وقد تركز إنتاج نسيج الألاجا في عدد من المدن السورية وبخاصة دمشق وله أنواع عديدة نذكر منها: الهندية والعطافية والمثمنة والمسننة.. وكان المعروف من الألاجا باسم الصاية بمنزلة الزي الشعبي لمعظم السوريين حتى أواسط القرن العشرين، وكانت منسوجات الألاجا تحاك على النول التقليدي قبل حياكتها على الأنوال الميكانيكية.
أما قماش الديما فهو من قطن مقلم بألوان صفراء وزهرية أو صفراء وبيضاء، وهناك من يعتبر نسيج الديما، إنما هو تقليد لنسيج الألاجا لكن الألاجا من خيوط الحرير والقطن، والديما من خيوط القطن فحسب.

نسيج الأغباني
والأغباني نسيج من القطن بمواصفات خاصة، من حيث أنه موشّى ومطرّز بزخارف بخيوط من قصب أو حرير، وهو من مفاخر منسوجات دمشق، كان تقليداً للزنار الهندي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن