ثقافة وفن

ندرة اليازجي.. إننا بحاجة للبحث في الحقيقة والاستمرار في البحث … أعطى عمره للفكر .. وغاب جميع المثقفين عن تكريمه!!

| عامر فؤاد عامر – تصوير: طارق السعدوني

يبقى للفكرة صولتها في لا شعور الإنسانية، فهي الخلود، وهي خادمة الحقيقة، في كلّ وقتٍ. وعندما يتعدّى صاحب الفكرة أو صاحب الأفكار حدود المكان ليكون منارة للإنسانية، سنعوّل عليه كثيراً لأنه المخزن، ولأنّه منبع النور؛ لوقتٍ قادم، نتمنى أن يكون أكثر قرباً مما نتوقّع. الفيلسوف «ندرة اليازجي» صاحب المنهج الإنساني والكوني الفريد منحنا الأمانة، وعلينا تقديرها، والانتباه لمستوى مسؤوليّته فينا، فهو الحاضر في مؤلفاته مع الأجيال القادمة، والحاضر في ذاكرتنا نحن من واكبنا مسيرته، فمن خلال أكثر من 50 عاماً من العطاء بين مدرّس، ومفكّر، وكاتب، ومترجم، وممثل لسوريّة في أهم مؤتمرات الفكر العالميّة، وخادم للإنسانية، وكثير من الصفات الباطنيّة التي لا يتحلى بها سوى القلائل على وجه البسيطة في زماننا هذا، لا يسعني سوى أن أقدم كلماتٍ متواضعة في رحيل أجمل من قابلت.
الفكر النوعي

«خسرنا برحيل الفيلسوف، والمفكّر، والباحث، قامة شامخة قدّمت حياتها في فكر الإنسان العميق والنبيل، وقدّمت أبحاثاً مرموقة، ومتوالية، أسهمت في اطلاع الإنسان من خلال تجربته الحياتيّة على كيفيّة الارتقاء بإنسانيّته وبشريّته؛ نحو أعلى مراتب السمو، فكان مثالاً للإنسان المجتهد، والعامل، والمتواضع، والمفكر، والباحث، ولذلك فإن خسارتنا به خسارة لا تعوّض، وعندما حاز جائزة الدولة التقديريّة كانت حيازته لها شكلاً من أشكال تعبير المثقفين، ووزارة الثقافة، والتقدير الكبير لدوره الرائد، والمتقدّم، والإنساني، في تعزيز الفكر والإبداع العربيين، وقد تشرفت بتقديم التعازي باسم سيادة الرئيس «بشار الأسد» إلى عائلة الفقيد، وهذه اللفتة الكريمة من قائد الوطن، راعي الفكر والأدب، وهذا مؤشّر إلى مدى تقديره للفكر، والمفكر، والمبدع، ونتمنى أن نكون نحن ورثة هذا الفكر النوعي، وقادرين على حمله للأجيال القادمة بأمانة لكي تتولى تطويره ونقله، فالفكر الإنساني حلقة متواصلة تبدأ بالإنسان، ولا تنتهي، لأنّها تمثّل كينونته وفرادته في هذا الزمن». كانت هذه كلمة وزير الثقافة «عصام خليل» للإعلاميين الذين شاركوا في حفل تأبين المفكر والفيلسوف السوري «ندرة اليازجي».

أين أنتم… المثقفون؟!
كنت أتوقع حضوراً مكثفاً لمثقفي بلدنا في التأبين لكن أن يدخل وزير الثقافة والقاعة تكاد تخلو من المعزيّن! فهذا له دلالة غير مفضلة، ولاسيما أنّ الراحل طرق مجالاتٍ نادراً ما يلتفت إليها باحث حقيقي في العالم أجمع، فكيف أن يكون هذا الباحث سورياً! لكن على الرغم من ذلك كان الجوّ حميمياً بحضور وزير الثقافة «عصام خليل» ووزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل «ريمه القادري» وأقارب الفقيد ومحبّيه، والإعلاميين من عدّة جهات.

أعماله الكاملة
وفي إضافة أخرى لوزير الثقافة أيضاً: «لا يموت المفكر بموته، فأفكاره تستمر وتتناقل، ولذلك يجب نقل تجربته بأمانة للأجيال القادمة، لكي تتولى تطويرها ونقلها للأجيال التي تليها، ونحن في وزارة الثقافة قدّمنا له في العام الماضي جائزة الدولة التقديريّة تقديراً لما قدمه من فكر وفلسفة للعالم العربي، ونسعى إلى طباعة أعماله الكاملة بما يمكننا من الحفاظ على هذا الإرث الإنساني وتحويله لفعل متواصل في الحياة لنتمكن من استخلاص واستنباط هذه المعارف وتطويرها في المرحلة القادمة».

نموذج مرموق لشباب سورية
في تصريح خاصّ لـ«الوطن» ولدى سؤالنا لوزير الثقافة «عصام خليل» حول عالميّة المفكر «ندرة اليازجي» وبناء العلاقة مع شبابنا اليوم كي يتنوروا ويقدروا الأمانة التي تركها لنا، يقول: «أعتقد أن أي مشروع ثقافي هو حالة إنسانية مهمّة ولكي نتمكن من تعميمها على المستوى العام يجب أن يكون هناك تواصل بين المؤسسات الثقافية والمتلقي الذي يسعى إلى استخلاص مفاهيمه من هذه التجارب النوعية، فالمرحوم ندرة اليازجي كان نموذجاً في التعايش مع الأشياء بوصفها حوادث وأذكر أن واحداً من مصطلحاته التي أطلقها على الموت بأنه يجب أن يكون اسمه صعوبة الموت لأن الموت كحدث هو حالة فيزيائية عادية لكن العلاقة معها وتحليلها واستنباط ما يمكن من قبول هذه الظاهرة هو ما يحولنا لنكون حالة إنسانية مرموقة تتمكن من التعايش مع مختلف الأشياء ولو استطعنا أن نعزز لدى شبابنا هذه المفاهيم من خلال توصيل هذه الأفكار لهم أعتقد أننا سنتيح لهم أفقاً جديداً من التفكير تمكنهم من التعاطي مع الحالات التي يواجهونها في كثير من الموضوعية وبفعل بعيد عن رد الفعل النفسي النزق أو الغاضب، وهذا يمكن الشباب من اعتماد منهج التفكير والتحليل بدلاً من ردّ الفعل وهذا سيعزز مبدأ الحوار ويؤسس ثقافة نوعية للمرحلة القادمة تغني مؤسساتنا المعنية لنشر الوعي الثقافي وفي تقديري أن التجربة التي قدّمها «اليازجي» هي نموذج مرموق في التجارب الإبداعية التي يجب التعامل معها».

البحث في الحقيقة
من بين الحضور في التأبين كان مدير تحرير مجلة الحوليّات الأثريّة «موسى ديب الخوري» وهو مترجم، وباحث في أعمال مديريّة الآثار والمتاحف الذي قال في الراحل «ندرة اليازجي»: «كان قامة كبيرة وحامل شعلة المعرفة والبحث المستمر الذي لا يتحدد بحدود نهائية وكان يقول إننا بحاجة للبحث في الحقيقة ونستمر في البحث فالحقيقة لا تنتهي فكل من قال إنه وجد الحقيقة فهو ظالمها، ومن هذا المنطلق كان المرحوم نموذجاً للمعرفة الديناميكية وكان دائم الاطلاع على أحدث الأفكار والمفكرين في العالم ودائم العمل لفلسفة المناغمة مع الفلسفة القديمة وكان يقول دائماً أنا أعمل من نفسي حديقة أزرع فيها أفكاراً وأنتقي أفكاراً مهمة وأحاول من خلالها تشكيل حديقة جميلة فيها زهور متنوعة فكان دائماً يقول التنوع هو أساس يؤدي بنا للتطور ولا يؤدي بنا إلى الاختلاف، فالاختلاف جميل ويجب ألا يكون خلاف في التنوع، من هذا المفهوم ترك ندرة اليازجي كتباً مؤلفة ومترجمة حاملة لمعان إنسانية وروحية مهمة جداً وزرع فكراً نيراً من خلال مريديه وقارئيه سيستمر فالبذور التي تركها في المجتمع من خلال الندوات والمحاضرا ت والكتب غدت مخزوناً كبيراً ليستمر طلابه ومريدوه لإشعال هذه المسؤولية والنهج».

الحوار المهم
في تصريح خاص لـ«الوطن» وحول اللقاء الفكري والروحي بين «اليازجي» و«موسى الخوري» يقول: «ندرة اليازجي كان أستاذي ولي الفخر بأن أتعلم منه الكثير، وهو لم يكن يفرض على متلقيه آراءه وفكره ولكنه كان يطرحها للنقاش فليس بالضرورة أن يكون هناك اتفاق على كل الأفكار وإن كنا متفقين، ولكن الحقيقة من المهم الحوار الذي يجري أكثر من اللقاء الفكري، وفي المرحلة الأخيرة أبهرنا بتواضعه، فكان يسألني عن رأي حول معلومات علمية جديدة يقرؤها فيسألني عن الجانب العلمي حسب اختصاصي فكان يسأل ولا يتردد في فتح باب الحوار».

المحبة والوعي
يذكر أن للباحث موسى ديب الخوري كتاباً عن «حوارات مع ندرة اليازجي» وحمل عنوان «المحبة والوعي» وقد قدم هو نفسه للكتاب مع «ملحم رضوان» وهو أيضاً أحد تلامذة «اليازجي»، وفي نهاية الكتاب موجز عن كل الكتب وأفكاره ولكن متن الكتاب كان يشتمل على أهم القضايا التي تحدث فيها عن كتبه ومحاضراته فهو خلاصة لما قدمه لأكثر من خمسين عاماً من العطاء».
المثال الحيّ

في تصريح خاص لـ«لوطن» حول الارتقاء بالعلاقة بين المفاهيم التي قدمها قال ديمتري أفييرينوس: «أكثر شيء يفتقر له هذا المجتمع هو المثال الحيّ الإنسان الفاعل كفرد من أفراد المجتمع، ولكن بتطبيق مبادئ أخلاقية ومبادئ روحية عالية ولا نقصد هنا أن نجعل من المبادئ الأخلاقية كبنية فوقيّة بما يشبه قانون السير وفرض تطبيقه على الناس، فالمطلوب منا أن نعلم بأن الأخلاق الإنسانية التي نادى بها المرحوم «ندرة اليازجي» ودعا إليها هي الأخلاق التي يجسدها الإنسان في داخله بحيث أن تصبح جزءاً كإرث جيناتي حامل لكل موروث نوعي، ومن خلال أن تكون هذه الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من الشخص الإنساني، وبالتالي ليس مثالاً أن يوضع على منصة وتتبعه الناس بل هو مثال حي يذكر بوجود هذه المبادئ بحيث كل إنسان يسعى بشكل واع إلى تمثلها، وفي سياقه الاجتماعي والثقافي الخاص فكل إنسان فريد من نوعه وفي داخلنا إمكانية لتحقيق هذا الإنسان كلّ بحسب خصوصيته، وبقدر ما يوجد أشخاص تتحلى بالمسؤولية تجاه نفسها والمجتمع، سنجد هناك من يتتبع هذا الفكر وأثره، فالأستاذ ندرة وكل الأشخاص من الماضي والقادمون في المستقبل يفتشون عن هذه المعرفة، فالصفة الأساسية التي يجب أن يتحلى بها الباحث هي الجدّيّة البالغة والشعور العميق بالمسؤولية عن إنسانيتنا وبشكل عام والباقي يترك للزمن». ويتابع ديمتري: «تعود صلتي معه لمراحل الشباب فكان أستاذي في المدرسة الثانوية في دمشق وكان مميزاً بين الجميع فهو ليس ملقناً يقدم أفكاراً جاهزة ودائماً نتحلق حوله وبصورة تفاعلية من دون أن يلزم أحداً بالحضور فكان يترك الباب مفتوحاً وكل من يشعر بالضيق يستطيع المغادرة فكان لدرسه شغف لديّ وترقب لقدومه فهو يمتلك مبادئ إنسانية وكونيّة وأمثلته حية وحاضرة من الأدب والسينما والتجارب الشخصية والموسيقا وغيرها فهو يبتعد عن الإلزام بل الإصغاء فهو يعتمد بعداً تربوياً عميقاً واعتقد أن النهضة الشاملة عندما ستقوم في البلد ستقوم من هنا من شغف الطلاب بالمعرفة وتربيتهم الأخلاقية والأخلاق الحيّة والدوافع الذاتية بحيث تكون تجربة محررة وليست مقيدة تنفع الإنسان من دون مصلحة ذاتيّة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن