ثقافة وفن

السلطة الرابعة بين حرية التعبير وجلالة السلطان

| شمس الدين العجلاني

كان رجال الاستبداد في الزمن العثماني يهتمون اهتماماً خاصاً بالصحافة والطباعة ويخضعونها على الدوام لمراقبة دقيقة صارمة، إذ كان من غير المسموح لصحيفة أن تنشر كلمة واحدة ولو كانت في باب الإعلانات من دون أن تحصل على موافقة الرقيب الدائم. وكان يحتم على كل مؤلف أن يرسل مسودات كتاباته إلى «لجنة تدقيق المؤلفات» ليحصل على رخصة خطية لطبعه، وكثيراً ما كانت تدقيقات اللجنة وتصحيحاتها تستغرق شهوراً عديدة إن لم تناهز السنة.

كان السلطان العثماني السلطان عبد الحميد الثاني: (يخشى على حكمه وحياته من خطر الصحافة)، وأصدر أوامره إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء): (بتكميم أفواه الصحافة، وغلق بعض الجرائد، وفرض حكماً استبدادياً بتعطيله البرلمان « مجلس المبعوثان»، والدستور، وشكل عام 1877 هيئة رقابة جعلها تابعة لمديرية المطبوعات. مهمتها الوحيدة هي التجسس على ( أول من يقرأ الصحف المحلية والأجنبية -الدكتور سنان سعيد)، ويذكر الصحفي التركي أحمد أمين بك، أن من أكثر تعليمات ذلك السلطان المستبد، غرابة، أوامره بتشكيل لجنة رقابة، مهمتها الوحيدة التجسس على ( أول من يقرأ الصحف المحلية والأجنبية).
كان السلطان العثماني يريد من الصحافة «يجب قبل كل شيء تنوير الشعب عن صحة جلالة مولانا الملك الغالية».
ولأن السلطان عبد الحميد، لم يكن يحب الصحف وخاصة الفكاهية منها، فقد تضمن المنع لديه مادة تمنع الصحف الفكاهية، وأمر الصدر الأعظم «رئيس الوزراء» عدم إصدار الصحف الفكاهية أو أية مادة لها علاقة بالفكاهة أو الكاريكاتير!! وفي إحدى المرات اعتقل وسجن «تيودور كاساب» صاحب مجلة «هيال» الفكاهية لمدة ثلاث سنوات لأنه تجرأ على نشر كاريكاتور يسخر فيه من مشروع القانون وحرية الصحافة، في وقت كان فيه مجلس المبعوثان «البرلمان» يناقش مشروع قانون للمطبوعات.
السلطان عبد الحميد يعترف في مذكراته أنه هو من أسس جهاز «الجورنالجية – بمعنى جهاز تجسس على المواطنين بشتى انتماءاتهم وأعمالهم» لأنه حسب اعتقاده أن «الصدور العظام» وزراءه والولاة وكبار موظفي الدولة العثمانية أصبحوا ألعوبة في أيدي الأجانب فيقول: «نعم أنا أسست جهاز الجورنالجية. وأنا أدرته. متى حدث هذا؟ بعد أن رأيت صدوري العظام يرتشون من الدول الأجنبية مقابل هدم دولتهم والتآمر على سلطانهم».
وهنالك من يقول إن سبب إنشائه لجهاز «الجورنالجية» محاولات الاغتيال العديدة التي تعرض لها ما أدى به إلى الانزواء والعمل على تأسيس «جهاز الجورنالجية» ليراقب كل الموطنين حتى قيل ما جلس ثلاثة في مقهى إلا كان أحدهم جاسوساً للسلطان.
وكان أقسى أنواع الرقابة والإرهاب الحميدي وأولى مهام جهاز «الجورنالجية» التجسس والمراقبة على الصحف والصحفيين..

المكتبجي
عهد إلى شخص أو عدة أشخاص بمهمة «المكتبجي» وهي المهمة القمعية على الصحافة.. مهمة المكتبجي مراقبة تنفيذ قانون الصحافة العثماني والتقيد بحرفيته، وملاحقة الصحفيين، فمارس «المكتبجي» سلطاته بأفظع مظاهر الظلم وعدم الكفاءة وانعدام الأمانة والتضييق والتعسف على الصحف والصحفيين، واشتهر السلطان عبد الحميد الثاني بكراهيته للصحف وكتابها وخشيته من تأثيرها على الرعية لذا أمر بتقييدها وفرض الرقابة المشددة عليها وملاحقة الصحفيين.
يذكر الدكتور سنان سعيد مدى قلق السلطان عبد الحميد الثاني من الصحافة حيث يقول: «يخشى على حكمه وحياته من خطر الصحافة، وأصدر أوامره إلى الصدر الأعظم (رئيس الوزراء)، (بتكميم أفواه الصحافة، وغلق بعض الجرائد)، وفرض حكماً استبدادياً بتعطيله البرلمان (مجلس المبعوثان)، والدستور، (وشكل عام1877 هيئة رقابة جعلها تابعة لمديرية المطبوعات».
و يذكر فيليب طرزي، أن السلطان عبد الحميد الثاني كان لا يهتم بأمور الدولة بقدر اهتمامه بسلامته الشخصية والمحافظة على مركزه، ولا يحب الصحف، وأصدر أوامره بتقييد حريتها، وضيق عليها المراقبة حتى صارت جسماً بلا روح، فما كانت تنشر سوى ما يطيب للسلطان من ألفاظ التفخيم والتعظيم والتمجيد في مدح عدالته رغم مظالمه واستبداده وسوء إدارته. حتى وصل به سوء الظن عام 1898 إلى درجة
(وضع المطابع تحت إشراف الشرطة).
و يذكر فخري البارودي: «السلطان عبد الحميد قضى أيام حكمه بالخوف والهلع، والإكثار من تعيين الجواسيس، حتى قالوا إن الجواسيس في آخر أيامه كان عددهم يزيد على الثلاثين ألفاً… وقد كمت الأفواه وكسرت الأقلام.».

ممنوع ذكر كلمة مدرسة
من شروط مراقب المطبوعات العثماني «المكتبجي»، أن يكون تركياً وأغلبهم لا يجيدون العربية، وليست لديهم معايير أو تعليمات رقابية محددة، إنما حسب أهوائهم ومقدرتهم، لذا كان «المكتبجي» يتصرف بجهل وتخلف وعسف مع الصحف، فكان يمنع مثلاً أن تذكر الصحف كلمات مثل مدرسة أو حرية أو جمهورية أو اغتيال أو تنوير أو نهضة أو لا مركزية، وقائمة الممنوعات أكبر من أي تخيل.
لا يجوز أن يكون للبحث صلة:
تضمن قانون الصحافة الذي صدر عام 1864 أيام السلطان عبد العزيز، والذي عدله السلطان عبد الحميد، قيوداً رقابية فرضت على الصحافة منها:
منع نشر أي مادة لا تقترن بموافقة وزير المعارف، أو نشر أبحاث مطولة لا يتسنى نشرها دفعة واحدة، إذ لا يجوز أن يكون للبحث صلة في العدد القادم وبالتالي ممنوع استعمال عبارة (البقية تأتي) أو (يتبع) أو (للبحث صلة) أو البقية في العدد القادم خشية الإضطرار لمنعه، وممنوع ترك فراغ داخل المقال أو وضع نقاط لئلا يفسر الأمر تفسيراً سلبياً، ولا يجوز إعطاء أي مجال للطعن في الشخصيات.

كتمان جرائم الولاة
إذا أسندت تهمة السرقة أو الرشوة أو القتل إلى أحد الولاة أو أحد المتصرفين فينبغي كتمانها، ومحظور نشر ظلامة فرد أو أية جماعة من الشعب تشير إلى سوء تصرفات موظفي الدولة، والحيلولة دون تسرب أخبار تتعلق بمحاولات الإغتيال التي قد تقع ضد الملوك في البلاد الأجنبية، أو إلى أية مشاغبة أو مظاهرة يقوم بها المفسدون في تلك الممالك.
كما لا يجوز انتقاد الشخصيات الرسمية الكبيرة، ولا الإشارة إلى قتل الحاكم بل
يكتفى بأن ينشر أنه توفي، ولا يجوز نشر أنباء ما يحدث من ثورات أو انتفاضات في داخل السلطة، ولا يجوز نشر أخبار أية هزائم أصابت جيش السلطنة، أو ذكر أسماء أعداء السلطان والإشارة إليهم.

ممنوع استعمال مصطلح (H2O)
ومن القصص الطريفة التي تروى عن الرقابة العثمانية على المطبوعات، ما يدلل به على غباء رجال الرقابة العثمانية، أن رجل الكمرك «الجمرك» أيام السلطان عبد الحميد كان ممن يمارسون الرقابة، واكتشف أحدهم ذات مرة عند تفتيشه لحقائب أحد الطلبة العائدين من الخارج، كتاباً في الكيمياء، وتصفحه فوجد في صفحاته مصطلح (H2O) وهو الرمز الكيميائي للماء، فاستشاط الرقيب غضباً، وصرخ في وجه الشاب العائد أنت (ضد الحكومة وضد السلطان) ما أدى إلى إصابة الطالب بالرعب لأن اختصاصه هو الكيمياء وليس السياسة، فرد الرقيب عليه (أني أعرف حيلكم ودسائسكم) فالمقصود بـ (H2) هو السلطان عبد الحميد الثاني، لأن الحرف الأول هو الحرف الأول من حميد، والرقم 2 يعني الثاني، أما الرقم O فيعني أن السلطان يساوى صفراً! وقرر منع دخول الكتاب لتعرضه
(للذات السلطانية العليا).
الصحفي عرضة للتنكيل والقتل

لقد طال تقييد واضطهاد الولاة للصحف ولأصحابها وكتابها في بيروت ودمشق وبغداد وغيرها من مدن المشرق المتحضرة، أكثر مما هو في الآستانة. إذ كان إصدار الصحيفة يتطلب موافقات معظم موظفي الولاية إضافة إلى موافقة العاصمة. وتخضع الصحيفة لرقابة وأهواء «المكتبجي». ويحدد المكتبجي لأصحاب ومحرري الصحف ممنوعات عامة، وعند الحاجة ممنوعات خاصة مـرتبطة بوقـت أو حدث. وقد يكون أخف عقاب لمخالفة التعليمات أن يأمر «المكتبجي» بضرب الصحفي «الصحفي اللبناني سليم سركيس»، أو رميه في السجن «الصحفي فيليب الخازن»، أو محاولة قتله وتحطيم مقر صحيفته ومطبعته «الصحفي خليل خوري». أو تعطيل جريدته نهائياً «الصحفي لويس صابونجي، وصحيفة «الشهباء» لعبد الرحمن الكواكبي بعد أن نشر في عددها الثاني خبراً قصيراً يقول: «N ن موظفاً تركياً مسؤولاً عن قبول المتطوعين في الجيش رفض قبول المتطوعين الأرمن ما لم يبدلوا أسماءهم المسيحية بأسماء محمدية»، أو إغلاق الصحيفة ونفي صاحبها إلى الخارج «الصحفي نخلة قلفاط»، وصولاً إلى ما انتهى إليه الوالي جمال باشا «السفاح» يوم 6-5-1916 م في دمشق وبيروت بسوقه لمجموعة من الصحفيين الأحرار إلى المشانق وإعدامهم في ساحتي المرجة بدمشق والشهداء ببيروت وأمام الناس بتهمة التآمر على الدولة لا لذنب غير حقهم في التعبير عن رأيهم المعارض لسياسة الحكومة العثمانية وولاتها على البلدان العربية وكان من بينهم عبد الغني العريسي وسعيد فاضل عقل وأحمد حسن طبارة وعبد الوهاب بن أحمد الإنكليزي ورفيق بن موسى رزق سلوم والشيخ عبد الحميد الزهراوي ورشدي بن أحمد الشمعة وغيرهم.
ازداد سيف الرقابة على حرية الصحافة في عهد السلطان عبد الحميد، كما ازداد التجسس عليها فضلاً عن سطوة الرقيب (المكتبجي): « لا ترى في الجرائد إلا المدح والثناء على السلطان وأعماله المجيدة وتجنيد أعمال الموظفين بحق وبغير حق، وشكر «صاحب الشوكة» يعني السلطان بمناسبة وبغير مناسبة. والجريدة التي تعارض أو تنتقد ولو بالإشارة فجزاؤها الإغلاق وسجن صاحبها ومحرريها – فخري البارودي ».
لم يكتف الولاة العثمانيون باضطهاد الصحفيين بدمشق أو بيروت بل طال قمعهم كل الولايات العربية ففي العراق تعرض الصحفيون عام 1915 للاعتقال والنفي ومنهم عبد الحسين الأزري وإبراهيم صالح شكر وإبراهيم حلمي العمر وداود صليوة وعبد اللطيف ثنيان، بل إن الوالي العثماني في العراق جاويد باشا قام شخصياً بجلد إبراهيم حلمي العمر بسبب مقال كتبه ضد الاتحاديين!؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن