ثقافة وفن

سمات ومعالم تزخر بها دمشق … صور دمشقية من ذاكرة المكان والزمان

| منير كيال

للحديث عن سيران دمشق، لا بد من التوقف عند المكان الذي يتخذونه للسيران، أكان ذلك في بساتين الغوطة أم بربوة دمشق، فضلاً عن سيران القطار إلى مصايف دمشق.
فقد كانت بساتين الغوطة أجمل ما تكون بفصل الربيع، ومن تلك البساتين ما يعرف بالبستان الخامس وبستان البلعوط وبستان الشيخ شمعون وكذلك بستان القناية.. وقد يكون ذلك السيران ببساتين دوما أو المليحة، أو حتى بأي بقعة أخرى من بساتين الغوطة.

ضمان البساتين
وفي جميع الأحوال كان صاحب البستان أو مستثمر ثماره (الضمان) أو حتى المرابع… لا يتوانى عن الترحيب والتأهيل والتسهيل بالسيرنجية، وتقديم الضيافة لهم من الحليب الطازج والفول الأخضر أو حتى الجانرك والقرعون… إلى آخر ما هنالك مما بالبستان بذلك الحين، وأذكر على سبيل المثال أن صاحب بستان بدوما واسمه الحاج رجب النسرين، لما ذهبنا إلى بستانه بسبعينيات القرن الماضي (العشرين) قدم لنا من ثمار بستانه كل ما يخطر بالبال من منتجات ذلك البستان، حتى إنه أوعز بأن يشعل لنا الحطب لإعداد طعام ذلك السيران، لأن الضيف ضيف اللـه.. كما وجدنا مثل ذلك بسيران قمنا به إلى بستان بالمليحة… رحم اللـه تلك الأيام.
كانت الغوطة مقصد السيرنجية في فصل الربيع وإلى ربوعها يقوم السيرنجية بسيارين إلى تلك الربوع، سيران يشارك به الرجال والنساء شيباً وشباناً فضلاً عما يرافقهم من الأولاد الجميع بهذا السيران في سرور مطلق وراحة نفسية تنسيهم ما كانوا عليه من أعباء الحياة «فأحسن دوا شم الهوا» كما يقولون.
ترى من هؤلاء السيرنجية من يتخذ طرف الطاروق عند ساقية للماء مكانه المفضل.. ومن كان يروق له الجلوس في ظل شجرة وارفة، ومن يتخذ مكاناً يفصلة عن الآخرين بستار قماشي لأخذ حريتهم ودرء أعين الحشريين عنهم.

حياة كما يشتهي
الجميع بهذا السيران على هواه منهم من يعمد إلى إعداد السلطة ومنهم وخاصة النساء من يقشر البطاطا والباذنجان ويخرط الكوسا والزهرة لطعام من المقالي يتناولونه بلذة ما بعدها لذة، وقد تنصرف واحدة منهن إلى تتبيل اللحمة الشقف والكباب أو المعلاق، ومن تقوم بإيقاد النار للشواء، ومن الرجال من يعمد إلى تدخين الأركيلة أو اللعب بلعبة من ألعاب طاولة الزهر أو البرجيس أو حتى ورق الشدة تاركاً إعداد الطعام ولوازم السيران لغيره، وأطرف ما كان من اللاعبين بطاولة الزهر أو الشدة من كان لا يأتيه الزهر على هواه، فينال ممن يلاعبه ما يلقاه من الكلام المقذع أو الساخر، وكنت ترى الأولاد يشاركون أندادهم برقص الدبكة على إيقاع طبل يوحد حركاتهم، وشدو ناي على وقع أقدامهم، أما الأطفال فهم على نحو آخر من عالمهم الذي يسابقون به فراشات الحقل تنتقل من زهرة إلى زهرة، والطفل يقطف من تلك الأزهار فيجعل منها أضمومة يقدمها إلى أمه أو من يؤثره على نفسه.
فإذا جهز الطعام يجلس الجميع حول مدة الطعام يأكلون بشهية وإيثار وكثيراً ما كان السيرنجية يتساكبون الطعام وخاصة النساء إذا كانت بينهن حبلى تشتهي ما تشم من عند السيرنجية الآخرين فتكون السكبة حتى لا تكون الوحمة بادية على مولودها.
وكثيراً ما كانت إحداهن تعد اللقمة لنفسها فتلقمها لأخرى لكونها اشتهتها لها مرفقة ذلك بالحلفان أن تأكلها من يدها.

وللربوة مكانتها
وكان السيران بالربوة على نحو آخر، لأن سيران الغوطة أكثر ما يكون أيام الربيع، بينما السيران إلى الربوة قد يكون من أوقات أخرى من الصيف أو الربيع أو الخريف.
ذلك أن الربوة من أجمل متنزهات دمشق، لما فيها من التخوت على نهر بردى أو على الفروع المتفرعة عن بردى قبل دخولها مدينة دمشق، فضلاً عن ضفاف النهر المترعة بأبهى ما يصبو إليه الإنسان من المياه والنسيم العليل والمناظر الخلابة، فضلاً عن الغياض بأشجارها الملتفة وأزاهيرها البرية الوادعة المنتشرة هنا وهناك.
كان السيرنجية يقصدون مقاصف الربوة للاستمتاع بآيات الجمال ومنهم من كان يحرص على القدوم إلى تلك الرياض من الربوة مع تباشير الصباح يدخن الأركيلة ويشرب الشاي مع صديق له أو صديقين ومن ثم يعود ليباشر عمله اليومي.
وغالباً ما تكون سيارين الربوة على التخوت المقامة على النهر فضلاً عن الغياض والشادوران والمقسم الذي عند تفرع فرع من فروع بردى عن هذا النهر.
القطار فسحة دمشقية

وطالما نحن في مجال السيران، لا بد من الإشارة إلى السيران بالقطار فقد كان لهذا السيران متعة كبيرة، فالقطار بهذا السيران يتلوى بين أغصان الرياض تارة على زند النهر وتارة يخترق عباب الأشجار المتعانقة حتى تكاد أغصانها الدخول إلى عربات القطار، والسيرنجية على جانبي طريق القطار يلوحون مرحبين مودعين لسيرنجية القطار وهم يلتقطون الصور التذكارية للمشاهد التي يمر بها القطار، ويظل القطار برحلته الوئيدة يقدم المشهد تلو المشهد من جنبات النهر وواديه وحصباء الديماس في رحلة إلى الزبداني فسرغايا مروراً بالربوة ودمر والهامة وبسيمة وعين الخضراء والتكية ليوصل كل جماعة من ركابه السيرنجية إلى مقصدها بأمان، بعد هذه المشاهد الماتعة من سيارين دمشق، لعل من الممكن أن نقف بعض الشيء عند مهمة أو عمل الشاوي، الذي انطوى وأصبح في عالم النسيان لولا بقاء هذه المهنة بذاكرة من عايش الجيل الذي سبقنا من أبناء العقد الثالث وما قيل من القرن المنصرم (العشرين) يوم كانت دمشق تعتمد على مياه نهر بردى وفروعه بدمشق في الشرب والطبخ والاستعمالات المنزلية الأخرى فضلاً عن حاجات المرافق العامة بدمشق كالجوامع والحمامات والسبلان.
المياه جنة دمشق

كان الشاوي يشرف على قني توزيع هذه المياه على دور دمشق عبر اشتقاقاتها التي توصلها إلى الطوالع، ومن ثم إلى كل صاحب حق من هذه المياه. من دون زيادة أو نقصان، وهو في ذلك يحول دون عبث العابثين بهذه الحقوق أكان ذلك التعدي على وسائط نقل هذه المياه (القساطل) أم على حقوق المياه عبر الطوالع.
كما يتعهد هذا الشاوي المياه بالنظافة فيحول من دون سقوط أوراق الأشجار والأوساخ بالطالع وتسد المياه عن أصحابها وكان عليه أن ينظف القساطل ومآخذ المياه بالطالع ويتعهد ذلك من كل عطل أو خلل.
كما يقوم الشاوي بتحديد شبكات القساطل التي تنقل المياه من الأقنية إلى الطالع، ومن الطالع إلى أصحاب حقوق هذه المياه بحدود مجال عمله أو المنطقة المخصصة له.. كان يحفر لتجديد شبكة القساطل خندقاً يفرشه بالآجر المشوي مع ملاط القصرمل المكون من رماد وقود الحمامات العامة، ومن ثم يمدد تلك القساطل ويلحم عليها بما يعرف باللاوونة (اللاقونة) حتى لا تتسرب منها المياه ثم يغطي تلك القساطل، وهو يقوم بتنظيفها من حين لآخر أما ما كان من أمر ما يعرف بمرجة الحشيش بالزمن الماضي فهي تشمل الأراضي التي جنوب مجرى نهر بردى، من موقع التكية السليمانية حتى ساحة الأمويين في أيامنا، كانت هذه المساحة من مجالات أوجه الخير التي أوقفت بدمشق وقد جعلوا لها الجرايات الدائمة من أوقات خاصة بها وقد أوقف هذه الأوقاف السلطان نور الدين الشهيد، لتكون هذه الأراضي مأوى للحيوانات العطيلة للرعي فيها بأمان إلى أن يوافيها الأجل، كما كان يرتادها السلاطين والأمراء، يلعبون الكرة والصولجان ويروضون خيولهم منتظرين وقف الجهاد. وكانوا في بعض الأحيان يتخذون مرجة الحشيش هذه، أو ما يعرف بالمرج الأخضر، لإنزال خيولهم عندما تضيق قلعة دمشق أو تزدحم، وقد ينزل بها من تضيق بهم دمشق عن إيوائهم من مواكب الأمراء والوفود والقوافل فضلا ًعن كون هذا المرج متسعاً للنزهة والفرجة على ألعاب الفروسية.

ملاعب منظمة
ثم تحول هذا المرج إلى مجموعة من الملاعب لكرة القدم والسلة والمضرب التي تتبع لأمانة العاصمة (محافظة دمشق) فضلاً عن توافر مسبح عام دولي حديث وكان يجري بهذا الملعب كل عام احتفالات عيد الجلاء ومهرجات الفروسية التي تقام بمناسبة الجلاء، فضلاً عن سباق الخيل، وظل الأمر كذلك حتى تحولت هذه الأراضي إلى مقر لأجنحة معرض دمشق الدولي لفترة من الزمن وأخيراً، وفي مسك الختام سنقف مع أحلام الطفولة بما يعرف عندهم باسم: عجايبك عجايب وهو المسمى باسم صندوق الفرجة ذلك المسرح الجوال الطريف الذي شاهدناه بطفولتنا، وشعرنا بمشاهدة عروضه متعة ما بعدها متعة، وعالماً مجنحاً لا تزال صوره ماثلة بذاكرتنا، لما كانت تحمله من المشاهد والعوالم التي تأخذ بالألباب وما زالت مقولة:
تعا اتفرج يا سلام
على عجايب الزمان
لا تزال هذه المقولة التي يدلل بها حامل هذا الصندوق لدعوة الأطفال إلى مشاهدة عروضه، لا تزال هذه المقولة تراود أسماعنا وتشدنا إلى طفولتنا المجنحة بالرؤى والأحلام وتعيد إلى ذاكرتنا ذلك الرجل يحمل صندوقه على ظهره ينتقل بين الحارات والأزقة بحثِّ الأطفال للفرجة عما بداخل صندوقه من عروض أو مشاهد وما إن يحط الرجل صندوقه من على ظهره، ويضع كرسي الفرجة (الذي يتسع لعدة أطفال) بمقابل عدسات الفرجة، حتى يتسارع الأطفال للفرجة، فيحتل كل مكانه على ذلك الكرسي بمقابلة عدسة من عدسات الفرجة المكبرة، التي بمقدمة الصندوق.
كان أجر الفرجة لا يزيد على نصف القرش، وقد يكون بضع حبات من الجوز أو رغيف خبر بل حتى حفنة من الزبيب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن