ثقافة وفن

ذكاء الاختيار في رسم الشخصيّات ومغامرة مضمونة النتائج … سلامة هو الفيلم الأكثر حضوراً في الذاكرة

| عامر فؤاد عامر

لم يكن من الضروري أن تقدّم نفسها كممثلة سينمائيّة؛ وهي تعلم تماماً، بأن إمكانياتها تلك، لن تقودها لتكون من نجوم الصف الأول في السينما العربيّة، ولكن مع وجود جواز سفرها الغنائي، وضرورة طرح موهبتها في اللغة السينمائيّة الموثّقة، والحافظة لشخصيّات كلّ عصر؛ باتت تلك الخطوة جيدة جداً لـ«أمّ كلثوم» سيدة الغناء العربي، التي وظفت حضورها الفنيّ بذكاءٍ في السينما، من خلال 6 أفلام حُفرت في الذاكرة، وأوجدت لنفسها مكانةً جيدة جداً، فكانت حاضرة في هذا اللون الفنّي الحديث العهد عربيّاً حينها، وأرضت أناها العالية التي تدخل في مواصفاتها كفنانة، وحافظت على نفسها كرقمٍ قويّ، وصعب، بين الفنانين.

حاضرة دوماً
بعد مرور 41 عاماً على ذكرى وفاتها؛ ما زلنا نذكر، ونتداول، تفاصيل كثيرة عن الأفلام التي قدّمتها السيدة «أمّ كلثوم»، وهي: فيلم «وداد» عام 1936، و«نشيد الأمل» أو «منيت شباب» عام 1937، و«دنانير» عام 1939، و«عايدة» عام 1942، و«سلامة» 1945، وفيلم «فاطمة» 1947، إضافة إلى الفيلم الغنائي «أولاد الذوات» 1932.

الشخصيّة الفقيرة
في أفلامها الستّة مجموعة من الملاحظات المشتركة، التي يمكن القول إنها لم تأت لتكون عبثيّة، أو في إطار التجربة وحسب، بل كانت مغامرة محسوبة ومضمونة النتائج، ومن بين هذه الملاحظات التي يمكن التحدّث عنها بقوّة هي: أن الشخصيّة التي تلعبها «أمّ كلثوم» في الأداء السينمائي كانت دوماً تدور في فلك «الجارية» أو «الغانية الراقية»، التي تسافر بنا عبر قصة حبّ مشوّقة، فيها من العذاب، ومن الأمنيات المحققة التي تسعى إليها عبر مسيرة الفيلم ومجراه، فهي لم تلعب مرّة في دورٍ من الأدوار الستة شخصيّة الفتاة الارستقراطيّة، المدللة التي تغني، أو الفتاة التي تنتمي لطبقة نبيلة تهتم بحالتها الفنيّة مثلاً، بل حضرت في صورة المغنية الفقيرة دوماً، لكنها الفقيرة الراقية بأخلاقها وحضورها الجميل، فقد كان للفنانة «منيرة المهدية» صبغة قوية في نمط الجارية القويّة والمتسلطة التي منحت شكلاً غير محبب لطبيعة الإنسان العربي في مجتمعه الذي تحكمه العادة والتقليد، وبذلك قلبت «أمّ كلثوم» هذه الصفة المكرّسة من خلال نمط جديد شديد الاختلاف.

مواصفات خاصّة
لم تحمل مشاركاتها السينمائيّة أيّ قبلة، بينها وبين شريكها في التمثيل، بل كان الموضوع أكثر من ذلك، فهو لم يحمل أيّ ملامسة بالأيدي بينهما، فقد طُرحت المشاهد بصورةٍ فيها الكثير من التحفّظ على مشاهد الحبّ والغرام واللقاء مع الحبيب، وكأنّها تحفظ بذلك لنفسها تميّزاً خاصاً بمواصفات شخصيّة، على الرغم من أن اللغة السينمائيّة لا تحمل من هذا التحفظ معنى واجباً، بل كما هو معلوم ولاسيما في السينما المصريّة أن كسر حاجز العاطفة ومشاهد الإغراء والغرام لم يأخذ وقتاً طويلاً، فكان من الأمور المطروقة والمكرورة في كلّ فيلم سينمائي قُدّم.

تجارب قليلة لكن مميّزة
فيلمها الأول كان في العام 1932 وامتدت فترة أفلامها السينمائيّة إلى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، أمّا بعدها فلم تقدّم «أمّ كلثوم» نفسها في أي تجربة سينمائيّة جديدة، ولربما سنّها هو السبب من جانب، مع ظهور الممثلات الجميلات اللاتي بدأن يتصدّرن الشاشة السينمائيّة بقوّة، مثل «مريم فخر الدين»، و«نور الهدى» وغيرهما، وبالتالي باتت الأمور في ميزان جديد، وحساب جديد، يختلف عن زمنٍ سابق، فكان من الذكاء أن تقرر الابتعاد عن ساحة السينما مع وجود ممثلات منافسات بقوّة فيها، وهي لا تمتلك ذلك القدر من الجمال الذي يستقطب جمهوراً كما غيرها.

عملية تجميل
وفي الحديث عن الجمال تذكر المقالات أن لـ«أمّ كلثوم» تجربة في ميدان عمليّات التجميل، التي تغري الممثلات، والفنانات عموماً، ولاسيما أن كاميرا التصوير بدأت تحضر في حياتها، فإن كانت في السينما موثّقة، فقد بدأت أيضاً في توثيق الحفلات الغنائيّة كذلك، وتجربة تصوير كثير منها على أهم وأعرق المسارح التي حضرت إليها.

ليست المدللة
كانت «أمّ كلثوم» ممثلة جيدة، لكنها ليست الممثلة الممتازة، وهنا نفهم تماماً ما حفرته لنفسها بذكاء، لتكون مختلفة، ومميزة في تجربتها، ولا تسقط في أيّ واحدة منها جميعها، فهي تدرك مستوى الجمال الذي هي عليه، فهي لا تملك مواصفات الجميلة، والفاتنة، لتكون سليلة أسرة راقية من الطبقة الأرستقراطيّة أو لتجسّد دور ابنة الباشا المدللّة، أو لتكون الفتاة التي تعزف البيانو ولها عوالمها التي لا تتقاطع مع أي فتاة في وسط العوام، فلا مجال لديها لمنافسة «ليلى مراد» و«أسمهان» اللتين طرحتهما اللغة السينمائيّة في هذه الصورة، عبر قصص الأفلام التي شاركتا فيها، بل هي أخذت الطرف المقابل لهما، والأكثر مناسبة لمستوى جمال وجهها، وحجم جسمها، كما تتطلب اللغة الجماليّة التقليديّة لحكاية أي فيلم سينمائي في ذلك الوقت.

انتشار
أغنيات تلك الأفلام كانت بين الطقطوقة والأغنيات ذات الطابع الحواري، وكان لها حضورها الناجح جداً، والتي أحبّها المتلقي بقوّة، وإلى اليوم تُسمع، وتشاهد، مثل «غنيلي شوي شوي» لـ«زكريا أحمد» في فيلم «سلامة» وأغنية «قُلْ لي ولا تخبيش يا زين» أيضاً من «سلامة».

«سلّامة»
ما الفيلم الأكثر قوة وشهرة بين أفلامها؟ ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بسهولة؛ ففيلم «سلامة» هو كذلك، وقد جاء خاتمة للتجربة السينمائيّة الخاصّة بأمّ كلثوم، وكان الفيلم الأكثر شهرةً ومتابعة إلى يومنا هذا، فمفهوم السينما بات يتوطد في ذلك الحين على المستوى الفنّي العربي، وجاء هو كفيلم في مرحلة متأخرة عن باقي أفلامها أيضاً، ما منحه توقاً من المتابع العربي للسينما في ذلك الحين ليرى « أم كلثوم» من جديد في فيلم سينمائي، وكذلك بعد مرور وقت طويل لا بدّ من طرح «سلامة» بصورة أقوى ومدروسة أكثر من أي فيلم سابق.

حذرة
لم تقدّم أم كلثوم نفسها كممثلة سينما؛ إلا بعد وفاة والدها وهذه الملاحظة قد لا تعني لدى الباحث والناقد كثيراً إلا أنها حقيقة يمكن البوح بها، فوالدها المتنوّر المنفتح الذي مدّ يده ليدفع بموهبتها الغنائيّة إلى الأمام كان حاضراً في حياتها ليكون حاجزاً غير مباشر شكّلته تلك السيدة لنفسها، فكان من المخجل أن تدخل اللغة السينمائيّة الحديثة العهد في تلك الآونة أمام وجود والدها، فكان للسينما وقع غير سائغ لدى العرب تبعاً لحالة الوعي المجتمعيّة المتنامية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن